لم تعد قضية الهجرة غير الشرعية في أوروبا شأنا إنسانيا بحتا، بل تحولت إلى نوع من "الابتزاز الدبلوماسي"، وورقة ضغط تشهر خلال الحملات الانتخابية، وعبء يتحكم في رسم سياسات الدول.
ضمن هذا الإطار يمكن فهم إعلان بريطانيا التوصل، أخيرا، إلى اتفاقيات مع أنغولا وناميبيا تقضي بقبول عودة المهاجرين غير النظاميين والمدانين جنائيا، بعد تلويح لندن بفرض عقوبات تتعلق بالتأشيرات على دول ترفض التعاون معها في هذا الملف.
وتأتي في مقدمة هذه الدول جمهورية الكونغو الديمقراطية، إذ صعّدت الحكومة البريطانية الضغوط عليها عبر حرمان مسؤوليها من خدمات التأشيرات والمعاملة التفضيلية، إذا لم يتحسن "التعاون بشكل سريع"، وفق تعبير وزيرة الداخلية البريطانية شابانا محمود.
ويستنتج خبراء بأن هذا الموقف المتشدد يكشف أن أنغولا وناميبيا استجابتا للضغوط، في مؤشر على أن ملف الهجرة أصبح "سلاحا دبلوماسيا، لا مجرد إجراء إداري"، وهو ما أشارت إليه "بي بي سي" بالقول إن هذه الخطوة تمثل "أوضح إشارة إلى أن لندن مستعدة لاستخدام أدوات السياسة الخارجية لتحقيق أهداف داخلية في ملف الهجرة".
وتعد هذه الخطوة، كما تقول لندن، جزءا من إصلاحات أوسع لنظام اللجوء، أعلن عنها الشهر الماضي، وتهدف إلى جعل وضع اللاجئ مؤقتا وتسريع ترحيل من يصلون إلى البلاد بطرق غير شرعية، وتشديد الرقابة على الحدود.
وأكدت وزيرة الخارجية البريطانية إيفيت كوبر أن بلادها رحّلت أكثر من 50 ألف شخص "لا يحق لهم البقاء" منذ يوليو/تموز من العام الماضي، في محاولة لإظهار أن الدولة استعادت السيطرة على ملف ظل لسنوات مصدر إحراج سياسي وأمني.
ورغم هذه الأرقام، يرى خبراء أن التشدد حيال الهجرة لا يعكس فقط رغبة إدارية في تحسين الكفاءة، بل يأتي في لحظة ضغط انتخابي متصاعد، حيث تحولت الهجرة إلى ساحة تنافس حاد بين الأحزاب، وهو ما عبرت عنه صحيفة "الغارديان" التي اعتبرت أن "الهجرة أصبحت المقياس الذي تختبر به قدرة الحكومة على الحكم"، وأن أي تساهل في هذا الملف بات يترجم فورا كضعف سياسي.
حزب الإصلاح
ولدى الحديث عن العلاقة بين التنافس الحزبي والهجرة، يبرز اسم "حزب الإصلاح البريطاني" اليميني الذي يعد أحد أهم العوامل وراء تشدد السياسات البريطانية الأخيرة في ملف الهجرة، رغم محدودية حضوره البرلماني.
الحزب، الذي يعد امتدادا لحزب "بريكست" الذي أسسه نايجل فاراج عام 2018، وأعيدت تسميته بعد إنجاز خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يتخذ من الهجرة قضيته المركزية، إذ يراها "تهديدا سياديا واقتصاديا وثقافيا، ويطالب بالترحيل السريع دون أي قيود أو شروط.
ويلاحظ خبراء أن الحزب يمثل "قوة سياسية لا تحكم لكنها تفرض جدول الأعمال" على الحكومة، فقوته لا تقاس بعدد المقاعد، بل بقدرته على فرض سياسات معينة، بشكل غير مباشر، خصوصا وأن استطلاعات الرأي الأخيرة تمنحه ما يصل الى 18% من نوايا التصويت لناخبين غاضبين من تدهور الأوضاع المعيشية ومما يعتبرونه "فشل الدولة" في ضبط الحدود.
وفقا لذلك، يرى خبراء أن الحزب تحول إلى "تهديد انتخابي"، وهو ما دفع الحكومة والأحزاب التقليدية إلى تبني خطاب أكثر تشددا بخصوص الهجرة، خشية فقدان قاعدتها الانتخابية التي باتت ترى أن الحزم في مجال الهجرة معيار للكفاءة السياسية.
واللافت أن هذه المخاوف لا تقتصر على بريطانيا وحدها، بل تندرج ضمن إطار موجة يمينية عاتية، حسب وصف الخبراء، تجتاح القارة العجوز، فمن فرنسا مرورا بإيطاليا وألمانيا وهولندا وصولا إلى النمسا، صعد التيار اليميني الذي يقتات على "الهجرة غير الشرعية"، ويراكم من خلال هذا العنوان شرعيته وحضوره ضمن المشهد السياسي.
إكراه دبلوماسي
وفي موازاة تماهي الأحزاب التقليدية مع خطاب اليمين المتشدد خشية فقدان الأصوات، ثمة نقطة سجالية أخرى تتعلق بالبعد القانوني والحقوقي لهذه الخطوة البريطانية، المثيرة للجدل.
ويعرب خبراء عن اعتقادهم أن ربط لندن التعاون في ملف الهجرة بامتيازات التأشيرات يكاد يكون نوعا من "الإكراه الدبلوماسي"، وهو ما يقوض طبيعة العلاقات الدولية القائمة على الندية والشراكة، كما يضعف "سيادة واستقلالية" بعض الدول الفقيرة التي لا تقوى على مقاومة الضغوط.
وعلى المستوى القانوني، حذرت منظمات حقوقية، مرارا، من أن هذه الاتفاقيات التي تفرض عبر سطوة النفوذ السياسي، تؤدي غالبا إلى انتهاك مبدأ ثابت في موضوع الهجرة وهو "عدم الإعادة القسرية"، لا سيما عندما يتعلق الأمر بدول تعاني من النزاعات أو ضعف المؤسسات وهشاشة الهيئات القضائية، كما هو حال جمهورية الكونغو الديمقراطية، على سبيل المثال.
ويلفت الخبراء إلى أن الحكومات الأوروبية وبينها البريطانية لم تعد تأبه لهذا الجانب الإنساني كثيرا، فهي ترى أن الكلفة السياسية الداخلية لعدم التحرك بخصوص الهجرة واحتواء تداعياتها، باتت، أعلى من كلفة الانتقادات الحقوقية، إذ تحولت الهجرة من قضية إنسانية إلى اختبار لنجاح الحكومات.
ولا يمكن فصل هذه الإجراءات البريطانية عما يدور في الضفة الأخرى من الأطلسي، إذ أظهرت تجربة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن الهجرة يمكن أن توظف كأداة لكسب التأييد الشعبي.
ويوضح الخبراء أن سياسات ترامب الصارمة، من حظر دخول مواطني دول معينة إلى فصل العائلات وتسريع ترحيل اللاجئين، وعقد صفقات من "دول ثالثة" لاستقبال المرحلين، أرسلت إشارات واضحة إلى حلفائه الأوروبيين بأن مكافحة الهجرة يمكن أن تكون ورقة انتخابية فعالة، وهو ما دفعهم إلى نسخ التجربة الترامبية، مع بعض الاختلاف.
وشددوا على أن الهجرة ليست أزمة عابرة يمكن حلها بإجراءات عقابية، ومواقف متسرعة، وآليات "مجحفة" للترحيل تطبق على عجل، بل ظاهرة تتجاوز حدود الدولة الوطنية، لتكون أزمة عالمية تتطلب إدارة ذكية ومرنة وتعاونا وتنسيقا على أعلى المستويات.