يشهد الساحل الجنوبي لباكستان سباقًا جيوسياسيًا جديدًا بين الولايات المتحدة والصين، تتجسد ملامحه في التنافس بين ميناءي باسني وجوادر.
فبينما يُعد جوادر حجر الزاوية في الممر الاقتصادي الصيني- الباكستاني (CPEC)، تسعى إسلام آباد إلى إحياء مشروع ميناء باسني بدعمٍ أمريكي محتمل، في محاولةٍ لإعادة التوازن بين القوتين العظميين وخلق مساحات جديدة للمناورة الاقتصادية.
وذكرت مجلة "The Diplomat" أن هذا التنافس، رغم طابعه التجاري الظاهري، يحمل أبعادًا استراتيجية عميقة؛ فمشروع باسني الذي تبلغ تكلفته التقديرية 1.2 مليار دولار، يهدف إلى إنشاء ميناء مياه عميقة مدني لتصدير المعادن النادرة والحيوية التي تمتلك باكستان احتياطيات كبيرة منها في بلوشستان.
وتؤكد تقارير أن مستشارين عسكريين باكستانيين أجروا بالفعل مشاورات أولية مع مسؤولين أمريكيين، في خطوةٍ تُعد أول محاولة جادة منذ عقد لتقريب واشنطن من الموانئ الباكستانية.
وفي إطار هذا التوجه الجديد، أرسلت باكستان في أكتوبر 2025 أول شحنة من المعادن النادرة إلى الولايات المتحدة، تضمنت الأنتيمون والنحاس والعناصر الأرضية النادرة مثل النيوديميوم والبراسيوديميوم.
وقد جاء ذلك بعد توقيع اتفاقية تعاون بقيمة 500 مليون دولار بين شركة "US Strategic Metals" الأمريكية ومنظمة "Frontier Works" الباكستانية، لترسيخ شراكة في قطاع المعادن الاستراتيجية.
وبهذا، تحاول باكستان تثبيت نفسها كفاعل ناشئ في سوق المعادن العالمية، وفتح نافذة اقتصادية أمام واشنطن على بُعد 70 ميلًا فقط من ميناء جوادر الذي تديره الصين.
البوابة الصينية
على الجانب الآخر، لا تزال الصين متمسكة بميناء جوادر باعتباره البوابة الجنوبية لاستراتيجيتها الأوراسية ضمن مبادرة "الحزام والطريق".
ورغم التحديات الأمنية في بلوشستان وتراجع حركة الشحن، تواصل بكين الاستثمار في تطوير البنية التحتية، بما في ذلك افتتاح مطار دولي جديد عام 2025 وتحديث الطرق السريعة N-10 وN-25، إلى جانب توسعة المنطقة الصناعية.
لكنّ التحديات أمام المشروع الصيني لا تزال كبيرة؛ فالميناء يواجه عدم استقرار أمني متزايد في الإقليم، مع استمرار هجمات المتمردين واستهداف المهندسين الصينيين، ما أدى إلى تعليق بعض الأنشطة.
كما أن السخط المحلي من ضعف العائدات وفرص العمل ما زال يقوّض الدعم الشعبي للمشروع؛ ومع ذلك، ترى بكين في جوادر استثمارًا طويل الأمد لا يمكن التخلي عنه، إذ يمثل مركزًا محوريًا في الممر الاقتصادي الممتد من شينجيانغ إلى بحر العرب.
في الوقت ذاته، تعمل الصين على تنويع مساراتها اللوجستية عبر آسيا الوسطى لتقليل المخاطر. فقد أطلقت في عام 2025 ممرًا حديديًا جديدًا يربط تشونغتشينغ بكازاخستان وأوزبكستان وأفغانستان، ويجري العمل على ربط خط السكة الحديد بين الصين وقيرغيزستان وأوزبكستان بممر يمر عبر أفغانستان.
وتهدف هذه المشاريع إلى خلق جسر بري موازٍ يضمن استمرار تدفق التجارة حتى في حال تعطّل المسارات الجنوبية.
التنافس الإقليمي
لم تعد المنافسة بين باسني وجوادر شأنًا باكستانيًا بحتًا، بل أصبحت جزءًا من تحوّل أوسع في خريطة النقل والطاقة الأوراسية؛ فالهند، التي تضررت من العقوبات المفروضة على ميناء تشابهار الإيراني، أعادت توجيه استراتيجيتها نحو ممر بري عبر أفغانستان.
ومع تراجع جدوى المسارات الإيرانية، تتجه الأنظار إلى الممرات الجنوبية عبر أفغانستان وباكستان، مثل "ممر كابول" الذي يُقدّر بـ7 مليارات دولار، ويوفر منفذًا مباشرًا إلى المحيط الهندي بطاقة نقل تصل إلى 22 مليون طن سنويًا.
وتمنح هذه المبادرات آسيا الوسطى منفذًا مستقرًا ومحايدًا نسبيًا نحو الأسواق العالمية، بعيدًا عن خطوط التوتر الكبرى.
غير أن العامل الأمني يظل المحدد الأساسي لمصير هذه المشاريع؛ ففي أكتوبر 2025، شهدت الحدود الأفغانية–الباكستانية واحدة من أكثر فتراتها توترًا منذ سنوات، مع اشتباكات دامية في مناطق أنغور أدا وباجور وكُرم.
ومع ذلك، نجحت وساطات قطر وتركيا في إقرار هدنة مبدئية بين الجانبين، ما يفتح الباب أمام إنشاء آليات إقليمية لحماية الممرات الاقتصادية، ربما برعاية منظمة شنغهاي للتعاون أو عبر صيغة موسعة تضم دول آسيا الوسطى وأفغانستان وباكستان.
اختبار باكستان الأصعب
تجد باكستان نفسها اليوم في موقف محوري ودقيق: فهي ما تزال شريكًا استراتيجيًا للصين في مشروع الممر الاقتصادي، لكنها في الوقت ذاته تسعى لاستعادة ثقة الغرب عبر مشروع باسني والانفتاح على الاستثمار الأمريكي؛ وبهذا المعنى، يتحول باسني إلى رمزٍ للثنائية الباكستانية: بين الضرورة الاقتصادية والمخاطر الجيوسياسية.
من منظور واشنطن، يمنح الميناء الجديد فرصة للوصول إلى الموارد الحيوية، وتعزيز الوجود في بحر العرب، وموازنة النفوذ الصيني؛ أما بالنسبة لإسلام آباد، فالتحدي يكمن في إدارة هذه التوازنات دون الوقوع في فخ الاصطفاف الكامل. فنجاحها في ذلك سيحدد موقعها المستقبلي في النظام الأوراسي الناشئ.
وفي نهاية المطاف، فإن التنافس بين باسني وجوادر لا يدور حول مرفأين فقط، بل حول مستقبل أوراسيا بأكملها: بين منطق الجغرافيا السياسية الذي يزرع خطوط الانقسام، ومنطق الجغرافيا الاقتصادية الذي يسعى إلى التكامل والترابط.
وإذا ما استطاعت باكستان وأفغانستان الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار، فقد تتحول هذه المنطقة من خط صدع استراتيجي إلى محور جديد للنمو والاتصال القاري، حيث تلتقي الرؤى الأمريكية والصينية والهندية على شاطئ واحد.