بينما لا تزال نتائج قمة ألاسكا الأخيرة حبيسة الغموض السياسي، تلوح في الأفق قمة جديدة يُنتظر أن تجمع الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأمريكي دونالد ترامب في بودابست، ضمن سياق متصاعد من إعادة تموضع الأطراف الفاعلة في الحرب الروسية الأوكرانية.
وعلى خلاف لقاء ألاسكا الذي بقي مغلقاً على عناوين عامة، تحاط قمة بودابست هذه المرة بمؤشرات سياسية أكثر وضوحاً، لجهة الأطراف الوسيطة، والملفات التي يجري إعدادها، والتوقيت المرتبط بملف تسليح كييف وتصاعد التباين داخل المعسكر الغربي.
القمة المرتقبة تعكس انتقال التفاوض من الهامش إلى قلب النقاش الاستراتيجي، إذ تتزامن مع تحولات ميدانية وجيوسياسية دفعت الطرفين – ولو مؤقتاً – إلى اختبار مسار الحوار المباشر.
ما يجري، وإن كان لا يحمل ملامح تسوية بالمعنى الكامل، يُنبئ بولادة إحداثيات تفاوضية جديدة، قد تعيد رسم قواعد الاشتباك في أوكرانيا، وتختبر هوامش الدور الأوروبي في ظل انفراد أمريكي–روسي متجدد.
رغم أن قمة ألاسكا وفّرت اختباراً أولياً لمستوى الجاهزية التفاوضية بين موسكو وواشنطن، فإن ما يميّز قمة بودابست المرتقبة، لا يتعلق فقط بتوسع الملفات أو زيادة الانخراط السياسي، بل بكونها تأتي في لحظة تضغط فيها عوامل متزامنة تتمثل بتصاعد النقاش الأمريكي الداخلي حول كلفة الحرب، وتغيّر المزاج الأوروبي، وتعقيد ملف تسليح كييف، وتزايد حاجة موسكو إلى مخرج سياسي لا يُفهم كتنازل مباشر.
هذه المرة، يجري التحضير للقمة الثنائية وسط إدراك متبادل بأن الحرب وصلت إلى عتبة جديدة، يصعب معها الاكتفاء بإدارة النزاع من الأطراف. وإذا كانت ألاسكا مثّلت جسّ نبض دبلوماسي، فإن بودابست قد تكون مساحة محتملة لإعادة ضبط العلاقة من موقع سياسي مختلف، ليس كتكتيك مؤقت، وإنما كمقدمة لبلورة قواعد تفاهم أكثر واقعية.
مصدر دبلوماسي أوروبي تحدث لـ"إرم نيوز" مشيراً إلى أن بروكسل تدرك أن المفاوضات المحتملة بين ترامب وبوتين في بودابست تتجاوز مجرد وقف لإطلاق النار في أوكرانيا. فهي قد تتناول حزمة من الملفات المرتبطة بإعادة ضبط العلاقة الروسية–الغربية، بما يشمل العقوبات، والترتيبات الأمنية على الجبهة الشرقية، وربما حدود الأدوار الإقليمية في ما بعد الحرب.
وبحسب المصدر الدبلوماسي، فإن "ما يثير القلق في العواصم الأوروبية هو احتمال أن تنتهي هذه القمة إلى اتفاق ثنائي يعيد ترسيم النفوذ في أوروبا دون الرجوع إلى الحلفاء، ودون إشراك أوكرانيا كطرف مفاوض فعلي. أي تفاهم لا يتضمن شراكة أوروبية فعلية ولا يحترم السيادة الأوكرانية سيكون مصدر توتر داخل الاتحاد".
وأضاف المصدر أن "الجانب الروسي، بحسب ما نُقل إلينا عبر القنوات الدبلوماسية، يسعى إلى تثبيت مكاسب ميدانية عبر تفاوض سياسي مباشر مع واشنطن، وهو ما يُنظر إليه في بروكسل كمحاولة لإعادة تأهيل النظام الروسي دولياً دون تغيير فعلي في سلوكه السياسي أو العسكري".
ولفت بالقول إنه "في الوقت نفسه، هناك قناعة تتنامى بأن واشنطن قد تكون بصدد اختبار فكرة إخراج نفسها من مسار الاستنزاف المفتوح، دون أن يظهر ذلك بمثابة تخلٍ عن أوكرانيا".
وأضاف المصدر: "نحن لا نعارض التفاوض، لكن نُصرّ على أن أي عملية سياسية مقبلة يجب أن تكون متعددة الأطراف، وألا تتحول المجر إلى منصة تُصاغ فيها ترتيبات تتجاوز مصالح شركاء الحرب والداعمين الحقيقيين لكييف".
وكشف أن "المعلومات الأولية التي تردنا عبر القنوات الثنائية تشير إلى أن الملفات لن تُختزل فقط في أوكرانيا، بل سيُفتح النقاش حول البيئة الأمنية في شرق أوروبا وبعض المسائل المرتبطة بملفات التسلّح والعقوبات المتبادلة".
واعتبر أن القمة تمثّل بحد ذاتها نقطة اختبار لتوازن جديد أكثر منه مفاوضة على حل نهائي: "في تقديرنا، لا أحد يتوقع أن تُفضي إلى تسوية مباشرة أو اتفاق شامل، بل ربما تُستخدم كبداية لإعادة توجيه لغة الحرب نحو قواعد سياسية أكثر مرونة".
وختم المصدر بالقول: "تبدو أوكرانيا حاضرة كملف، لكنها حتى الآن ليست حاضرة كفاعل في النقاش. من هنا تأتي حساسية القمة بالنسبة لكييف، إذ تخشى أن تتحول من مركز الصراع إلى عنوان تفاوضي يُدار بمعزل عنها، وهذا مصدر قلق مشروع نتفهمه. أما المجر، بصرف النظر عن موقعها الجغرافي، فهي لا تمثل إجماعاً أوروبياً في الموقف من موسكو. وهذا يجعلها قناة عملية لعقد القمة، لكنها ليست بالضرورة انعكاساً لرؤية مشتركة أوروبية، بل لتقاطع مصالح ظرفي بين عواصم معينة".
الباحث الروسي يفغيني كوزنتسوف، المتخصص في العلاقات الدولية بمعهد موسكو للدراسات الاستراتيجية، قال خلال حديثه لـ"إرم نيوز" إن قمة بودابست المرتقبة تمثل بداية اختبار سياسي لمدى استعداد الغرب للانتقال من لغة العقوبات والضغط إلى لغة الحوار الواقعي مع روسيا.
وتابع في السياق ذاته: "منذ بداية الحرب، وروسيا تتعامل مع الصراع في أوكرانيا كجزء من معادلة أمن قومي وليس كملف نزاع إقليمي منفصل. من هذا المنظور، فإن أي تفاهمات محتملة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار ليس فقط حدود أوكرانيا، إنما بنية الانتشار العسكري للناتو شرقاً وطبيعة العلاقة الأمنية بين روسيا والولايات المتحدة".
واعتبر كوزنتسوف أن الكرملين يبحث عن صيغة تتيح له الخروج من حالة الاستنزاف دون أن تُفسَّر كتنازل استراتيجي. لهذا السبب، فإن مشاركة ترامب تمنح موسكو هامش مناورة مختلفا، لأنها تفتح باب التفاوض مع شريك مستعد لمقاربة الملفات".
كذلك، رجح الباحث الروسي ألا تُفضي القمة إلى اتفاق مباشر، لكنها تمثل في الوقت ذاته معاينة أولية لشروط الحد الأدنى من التعايش. "الروس يريدون التأكد من أن أي تهدئة ممكنة لن تُستغل لاحقاً لإعادة تسليح كييف أو تطويق موسكو سياسياً. لذلك فإن قضايا التسلح والعقوبات وآليات الضمانات الأمنية ستكون في قلب النقاش".
وتابع كوزنتسوف بأن "الروس يدركون أن التحولات البنيوية في الاقتصاد العالمي، والعلاقات بين الولايات المتحدة والصين، والانكفاء النسبي للنفوذ الأمريكي في بعض الساحات، كلها تخلق هامشاً لموسكو كي تتحرك سياسياً، إن أُدير التفاوض بدقة. ولهذا، فإن القمة يمكن أن تُعد محطة محتملة في مسار أطول يفتح ملفات مثل مستقبل انتشار الناتو، وملف الدروع الصاروخية، وحتى النظام المالي العالمي وموقع روسيا فيه".
وختم مشيراً إلى أن موسكو تبحث عن اعتراف أمريكي بوجود خطوط حمراء لم يعد مقبولاً تجاوزها؛ منها ما هو جغرافي، ومنها ما هو سيادي. وهذا الاعتراف، وإن لم يكن مُعلناً، يشكل في نظر الكرملين مقياساً حاسماً لتحديد مصداقية أي تفاوض، سواء أكان في بودابست أو غيرها.
الباحث الأمريكي ريتشارد هاستينغز، المتخصص في السياسات الدفاعية الأمريكية والأمن الأوروبي، أشار خلال حديثه لـ"إرم نيوز" إلى أن قمة ترامب–بوتين المرتقبة في بودابست يجب أن تُقرأ في إطار مزدوج، الأول خارجي يتعلق بإدارة ملف أوكرانيا، والثاني داخلي يتعلق بإعادة تعريف ما وصفه حدود التورط الأمريكي في صراعات طويلة المدى.
واعتبر أن "هناك إدراكا متزايدا بأن الدعم لأوكرانيا، رغم مشروعيته، لم يعد محصناً من التآكل السياسي داخلياً. القمة تمثل إذاً فرصة لاختبار مسار موازٍ يُخفّف الأكلاف دون التراجع عن المبادئ".
ولفت إلى أن الملف الروسي بالنسبة للولايات المتحدة أكبر من أوكرانيا، ويشمل توازن الردع النووي، وأمن الحلفاء الأوروبيين، وحدود النفوذ في الشرق الأوسط وآسيا. وتابع مستدركاً بأن واشنطن "ستحرص على ألا تُترجم قمة بودابست إلى تنازل عن قواعد الردع أو اعتراف بترتيبات ما بعد أوكرانيا دون تفاوض متعدد الأطراف".
وزاد بالقول إن "المصلحة الأمريكية اليوم تتجه نحو ضبط التصعيد، وليس تفكيك النظام العقابي. أي اتفاق مع روسيا يجب أن يكون مشروطاً بسلوك ثابت، وليس مبنياً على وعود ظرفية. لهذا السبب ستبقى الملفات العسكرية، وحدود التسلح، وسيناريوهات خفض الدعم لأوكرانيا، رهينة سياق أكبر لا يمكن لبودابست وحدها أن تحسمه".
كذلك، بيّن الباحث الأمريكي أنه "بالنسبة للمؤسسات الأمريكية، لا سيما البنتاغون ومجتمع الاستخبارات، فإن أهمية قمة بودابست المحتملة لا تكمن في مضمونها الظاهري، إنما في قدرتها على كشف أولويات موسكو بعد ثلاث سنوات من الصراع. ما الذي تغيّر في القراءة الروسية، وما طبيعة المخاوف الفعلية التي قد تدفع الكرملين إلى التفاوض؟".
واستطرد قائلاً: "من هنا، فإن القمة حتى وإن لم تؤدِ إلى اتفاق، قد تكون أداة استخبارية لفهم مدى تآكل البنية الداخلية للقرار الروسي، واختبار متانة التحالفات التي نسجتها موسكو خلال فترة الحرب".
وختم حديثه مشيراً إلى أن واشنطن تنظر إلى القمة كمختبر لمرحلة ما بعد الصراع، وليس كمنصة لتسوية الصراع بحد ذاته. وهذا يُفسّر حرصها على إبقاء خطوطها الأخرى مفتوحة مع الحلفاء الأوروبيين، كي لا تتحول القمة إلى مقايضة ثنائية تؤدي إلى تصدّع البنية الأمنية الأوسع لحلف الناتو، وفق قوله.
ولا يمكن فهم الزخم المتسارع نحو قمة بودابست دون وضعه في سياق التحوّلات التي تشهدها الحسابات الأمريكية الداخلية. ففي واشنطن، بدأت أصوات متزايدة تُعبّر عن تحفظات إزاء كلفة الالتزام الطويل بأوكرانيا.
القمة من وجهة نظر بعض الدوائر تتيح للبيت الأبيض اختبار إمكانية خفض مستوى الانخراط العسكري دون الظهور بمظهر المتراجع استراتيجياً.
وبالعموم، فإن المطلوب بالضرورة ليس إعادة تعريف الموقف الأمريكي، وإنما فتح نافذة لمعادلة جديدة تتيح تكييف الالتزامات وفق تطور ميزان القوى.
ورغم أن القمة تُعقد عملياً على أرض أوروبية، فإن الاتحاد الأوروبي لا يبدو حاضراً بوزن سياسي مباشر في مداولاتها الأولية.
هذا الغياب – الطوعي أو المفروض – يعكس مأزق أوروبا كطرف معني استراتيجياً بالحرب، لكنه عاجز نسبياً عن المبادرة الدبلوماسية.
والخشية قد تكون في بعض العواصم الأوروبية أن تُعيد بودابست صياغة التفاهمات الكبرى على حساب الشركاء. وما يمكن أن يُقلق باريس وبرلين على وجه الخصوص هو إمكانية ترسيخ مسار تفاوضي مغلق يعيد تعريف خطوط النفوذ دون توافق جماعي.
وفي خلفية اللقاء المرتقب، تقف أوكرانيا كملف رئيسي. ورغم أن الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي قد التقى ترامب قبيل القمة، فإن غياب كييف عن هندسة الجلسة التفاوضية يطرح إشكاليات سياسية تتجاوز الحساسيات البروتوكولية.
القمة، إن نجحت في بلورة إطار تفاوضي مستدام، فإنها قد تفرض على كييف خيارات لا تنبع من موقع قرار مستقل، وإنما من نتائج تفاهمات دولية تتجاوز قدرتها على التأثير.