في مشهد سياسي يختصر حجم التوترات داخل أوكرانيا وخارجها، تحولت قضية الانتخابات الأوكرانية إلى محور سجال علني بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
وخلال اللقاء الأخير بين الزعيمين في البيت الأبيض، طرح الصحفيون سؤالًا مباشرًا على زيلينسكي بشأن إمكانية تنظيم الانتخابات في بلاده، وأجاب الرئيس الأوكراني بأن كييف منفتحة على الانتخابات، لكنه ربطها بتوفير ظروف أمنية ووقف إطلاق النار، مشيرًا إلى أن الهدنة شرط أساسي لإجراء انتخابات شرعية وديمقراطية.
إلا أن الرئيس الأمريكي لم يدع التصريح يمر مرور الكرام، بل قاطع بدهشة قائلاً: "هل تقول إنه لا يمكن إجراء الانتخابات أثناء الحرب؟ هذا يعني غياب الانتخابات لثلاث سنوات ونصف أخرى، وهو وضع لن تتجاهله وسائل الإعلام الأمريكية".
وتشكل شرعية زيلينكسي طبقة جديدة من التعقيد في المشهد الأوكراني، خاصةً وأن ولايته الدستورية انتهت رسميًا في 20 مايو/ أيار الماضي، فيما يمنع قانون الأحكام العرفية المطبق منذ الغزو الروسي إجراء انتخابات رئاسية أو برلمانية.
وبينما تصر كييف على أن استمرار الرئيس في منصبه يستند إلى أسس دستورية، يثير غياب الاستحقاق الانتخابي نقاشًا حادًا في الداخل والخارج، واعترف سفير أوكرانيا السابق لدى بريطانيا، فاديم بريستايكو، بأن شركاء كييف الغربيين أنفسهم يبدون قلقًا من هذه الإشكالية.
وفي السياق نفسه، سعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تعزيز هذا التشكيك، مشيرًا إلى قرار المحكمة الدستورية الأوكرانية في عام 2014، الذي منع أي تمديد للولاية الرئاسية، مؤكداً أن ولاية زيلينسكي انتهت ومعها شرعيته، التي لا يمكن استعادتها بأي حال.
لكن تصريحات ترامب الأخيرة قلبت الطاولة، لتفتح جدلاً جديدًا حول ما إذا كانت أوكرانيا ستظل بلا انتخابات لسنوات أخرى في حال استمرار الحرب، وهل هناك مخرج دستوري وسياسي لإعادة ترتيب المشهد.
ويرى الخبراء أن الجدل حول شرعية استمرار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يرتكز على معادلة معقدة بين الدستور والأمن القومي، إذ استندت كييف إلى نصوص دستورية واضحة تمنع إجراء الانتخابات في ظل الأحكام العرفية.
واعتبر الخبراء أن استمرار القصف الروسي ونزوح الملايين يجعل أي عملية اقتراع فاقدة للشرعية والتمثيل، فضلاً عن خطر انقسام داخلي قد تستغله موسكو لإضعاف وحدة الدولة الأوكرانية.
وأشار الخبراء إلى أن تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي تساءل فيها بلهجة ناقدة عما إذا كانت الديمقراطية ستتعطل لثلاث سنوات أخرى إذا استمرت الحرب، تكشف عن تباين في الفلسفة القانونية بين واشنطن وكييف.
وأوضح الخبراء، أن هذا الطرح يلتقي ضمنيًا مع الخطاب الروسي الذي يشكك في شرعية زيلينسكي، ما يضع مستقبل الانتخابات الأوكرانية رهينا بتوازن حساس بين مقتضيات الحرب وضغوط الداخل والخارج.
ويرى د. سعيد سلام، مدير مركز فيجن للدراسات في أوكرانيا، أن مسألة شرعية استمرار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في منصبه بعد انتهاء ولايته الرسمية دون إجراء انتخابات تُعد من أعقد القضايا المطروحة في ظل الحرب الشاملة التي تخوضها البلاد ضد روسيا.
وقال سلام في تصريح لـ«إرم نيوز» إن الجدل الذي أثارته موسكو، تجاوز الإطار المحلي ليصل إلى مواقف قوى دولية كبرى مثل الولايات المتحدة، ما أضاف أبعادًا جديدة للنزاع القائم، وأن الموقف الأوكراني بتأجيل الانتخابات يرتكز على قاعدة دستورية واضحة لا يمكن الطعن فيها، حيث تنص المادة (83)، الفقرة الثالثة من الدستور الأوكراني، على أنه لا يجوز إجراء الانتخابات خلال فترة الأحكام العرفية أو حالة الطوارئ.
وأوضح مدير مركز فيجن للدراسات في أوكرانيا، أن إعلان حالة الحرب والطوارئ منذ 24 فبراير 2022، عقب الغزو الروسي، يعكس فلسفة قانونية تجعل أمن الدولة واستمراريتها أولوية تفوق الممارسات الديمقراطية في الظروف الاستثنائية، بهدف منع الفوضى التي قد تترتب على حملة انتخابية في بلد يواجه عدوانًا واسع النطاق.
وأضاف أن هذا الأساس الدستوري تدعمه مبررات عملية وسياسية، أبرزها استحالة ضمان سلامة الناخبين والعاملين في العملية الانتخابية في ظل القصف اليومي، إضافة إلى أن وجود ملايين اللاجئين والنازحين، فضلاً عن احتلال أجزاء من البلاد، يجعل أي انتخابات غير ممثلة لكامل الشعب. محذرًا من أن إجراء انتخابات في هذه الظروف قد يفتح الباب أمام انقسام سياسي واجتماعي تستغله روسيا لشق الصف الداخلي.
وأشار إلى أن البرلمان الأوكراني "الرادا" دعم موقف الرئيس، مؤكدًا شرعيته بالاستناد إلى المادة (108) من الدستور التي تنص على أن الرئيس يظل في مهامه حتى يتولى رئيس منتخب جديد منصبه.
واعتبر أن هذا الإجماع البرلماني يرسل رسالة واضحة للمجتمع الدولي بأن المؤسسات الأوكرانية ما زالت تعمل ضمن إطار قانوني، وأن تأجيل الانتخابات قرار مؤسسي وطني وليس فرديًا أو اعتباطيًا.
أما بشأن المواقف الدولية، لفت د. سعيد سلام، إلى أن القوى الكبرى أظهرت تناقضًا في رؤيتها، حيث اتخذت موسكو موقفًا أكثر تشددًا، إذ أعلنت أن زيلينسكي «غير شرعي» بعد انتهاء ولايته، ووصفت حكمه بغير القانوني في إطار حملة إعلامية تهدف إلى نزع الشرعية عن القيادة الأوكرانية وتبرير استمرار الغزو.
وشدد على أن هذه المزاعم تتناقض مع الدستور الروسي نفسه، الذي يتيح للرئيس سلطة تأجيل الانتخابات في حال فرض الأحكام العرفية، ما يكشف أن الموقف الروسي ليس قانونيًا بل توظيف سياسي بحت.
وأشار سلام إلى أن تصريحات الرئيس دونالد ترامب، التي أعرب فيها عن استغرابه من فكرة تعطيل الديمقراطية بسبب الحرب، تكشف عن عدم إدراك للفارق بين النظامين الدستوريين في أوكرانيا وأمريكا، فالدستور الأمريكي لا يمنع إجراء الانتخابات حتى في أوقات الحرب، بعكس الفلسفة القانونية الأوكرانية.
وفي السياق ذاته، قال د. ياسين رواشدي، الأكاديمي والدبلوماسي المتخصص في شؤون شرق أوروبا، إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتبع نهجًا يقوم على خطوات متدرجة تهدف إلى خلق أجواء تفاوضية أكثر إيجابية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن الأزمة الأوكرانية.
وأوضح الدبلوماسي المتخصص في شؤون شرق أوروبا، أن إحدى أبرز هذه الخطوات تتمثل في مساعيه لعزل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي تعتبره موسكو العقبة الأساسية أمام مسار التسوية، متهمةً إياه بأنه أشعل فتيل الحرب بمواقفه المتشددة تجاه روسيا وسياساته الصارمة ضد الأقليات الروسية في شرق أوكرانيا، وفقًا للرواية الإعلامية الروسية.
وأضاف رواشدي في تصريح لـ«إرم نيوز» أن هناك عوامل داخلية في أوكرانيا تعزز هذا التوجه، أبرزها انتهاء الولاية الدستورية لزيلينسكي قبل نحو عام، وارتفاع أصوات داخلية تطالبه بانتخابات رئاسية جديدة تفسح المجال أمام قيادة أخرى لإدارة ملفات الحرب والمفاوضات.
وأشار رواشدي إلى أن اتهامات الفساد الموجهة للرئيس الأوكراني، إضافة إلى حالة التململ الشعبي من استمرار الحرب وما خلّفته من معاناة، أسهمت في تعميق هذا الجدل.
ولفت إلى أن بعض القوى في الداخل الأوكراني بدأت تدعو إلى مقاربات أكثر مرونة، من خلال التخلي عن بعض المطالب القصوى، دون المساس بالأراضي الأوكرانية، مقابل تحقيق سلام شامل.
وطرح أمثلة لذلك مثل إعلان أوكرانيا دولة محايدة خارج إطار حلف الناتو، أو حتى منزوعة السلاح، شريطة أن يحظى ذلك بضمانات دفاعية قوية من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، بما يضمن استعادة الأراضي المحتلة وإنهاء الحرب.
وأكد رواشدي أن الضغوط باتت تتصاعد نحو استبدال زيلينسكي، في ظل رفض موسكو له وازدياد الأصوات المعارضة في الداخل الأوكراني، خاصةً وأن ترامب يلتقط هذه المؤشرات، ويدفع بها ضمن استراتيجيته لإيجاد أرضية مشتركة مع بوتين، حتى وإن كان الثمن الإطاحة بزيلينسكي.
وقال إن زيلينسكي عاجلاً أم آجلاً سيواجه ضغوطًا متزايدة تجبره على اتخاذ قرار مصيري، مشددًا على أن الخيار الأفضل أمامه هو الدعوة لانتخابات مبكرة والتنحي طوعًا، لإفساح المجال أمام قيادة جديدة قد تحظى بقبول روسي، ما قد يفتح نافذة أوسع نحو السلام.