بعد أيام من تنفيذ أوكرانيا عملية نوعية استهدفت جسر القرم الاستراتيجي، عقب العملية النوعية الأخرى "شبكة العنكبوت"، تتزايد التساؤلات حول ما إذا كانت قواعد الاشتباك قد تغيّرت، وما إذا كانت موسكو بدأت تفقد زمام المبادرة في حرب طال أمدها وامتدت آثارها إلى العمق الروسي.
العملية التي وصفت بأنها "فريدة من نوعها" نُفذت عبر تفخيخ دعامات الجسر بعبوات ناسفة تزن أكثر من طن، جرى تفجيرها تحت الماء بدقة عالية.
وهذه ثالث مرة تستهدف فيها كييف "جسر كيرتش" منذ بداية الحرب، في مؤشر واضح على تحول في التكتيك الأوكراني من الدفاع إلى الضربات العميقة والمؤلمة في قلب الجبهة الروسية.
ورغم نفي الكرملين وقوع أضرار كبيرة، وإعلانه استمرار حركة المرور، فإن حجم العملية ودقتها التقنية أثارا تساؤلات واسعة حول جاهزية روسيا الأمنية، ومدى قدرتها على صد مثل هذه الهجمات، خاصة أن الجسر يُعتبر شريانا استراتيجيا لإمداد القوات الروسية في الجنوب.
كما أن العملية الأخيرة المعروفة باسم "شبكة العنكبوت"، والتي قالت كييف إن الرئيس فلودومير زيلينسكي أشرف عليها شخصيًا، تعكس تحوّلًا لافتًا في الجرأة العسكرية الأوكرانية، وربما تكشف عن دعم خفي من قوى استخباراتية غربية مكّن أوكرانيا من تنفيذ هجمات نوعية في عمق الأراضي الروسية.
حول ذلك قال المحلل السياسي الخبير في الشؤون الأوروبية، كارزان حميد، إن للنجاح أصحابًا كُثرا، أما الفشل فوحيد لا أصحاب له، مشيرا إلى أن عملية "شبكة العنكبوت"، التي قال الرئيس الأوكراني إنه أشرف عليها شخصيًا، تعكس حاجته إلى مثل هذه العمليات النوعية لترتيب أوراقه من جديد، وطرح خطاب هجومي يمكّنه من استعادة زمام المبادرة.
وأوضح حميد، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن هذه العملية تُعد الأولى من نوعها منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية التي تُلحق ضررًا بالغًا بالقدرات العسكرية الروسية، إلا أن هناك شكوكًا واسعة حول ما إذا كانت أوكرانيا نفذتها بمفردها، خاصة في ظل سلسلة الإخفاقات والخسائر الميدانية التي منيت بها خلال السنوات الثلاث الماضية، وتصاعد المطالب الروسية بانسحاب كييف من الأقاليم المتنازع عليها.
ورأى أن هناك حلقة مفقودة في الرواية الأوكرانية، مؤكدًا أن غياب الرد الروسي حتى الآن له دلالات عديدة، أبرزها رغبة موسكو في تحليل تفاصيل العملية، ودراسة كيفية اختراق القوات المنفذة للعمق الروسي، إذ إن لكل عملية عسكرية بصمتها الخاصة التي تُساعد في تعقّب منفذيها.
وأكد الخبير في الشؤون الأوروبية، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يتعامل بردود فعل سريعة كما يفعل زيلينسكي، بل يتأنى كثيرًا، وعندما يرد، سيكون الرد قاسيًا ومميتًا.
واعتبر أن زيلينسكي ارتكب، من خلال هذه العملية، أكبر مخاطرة في مسيرته السياسية، وكأنه "وقع على حكم إعدامه بنفسه"، وفق تعبيره، مشيرًا إلى أنه لم يستوعب دروس من أطاح بهم بوتين في أوج قوتهم.
وأضاف المحلل السياسي أن كييف تعيش حاليًا حالة من الذعر بسبب صمت موسكو، معتبرًا أن ذلك الصمت يحمل رسالة واضحة بأن "المزاح مع بوتين غير وارد".
وقال إن الاتصال الهاتفي بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبوتين، الذي طالبه فيه بعدم الرد، يكشف عن إدراك واشنطن لاحتمال "رد انتقامي روسي قد يشل أوكرانيا تمامًا".
وأوضح حميد أن النزاعات تحتاج إلى طرف متهور يدفع الصراع نحو نهايته، حتى وإن تجاوز الخطوط الحمراء، لذا فإنه على الرغم من أن الروس يكررون أن كل الخيارات مفتوحة، فإن ما يُقال حتى الآن لا يتجاوز التلميحات والتمويهات.
ومن ناحيته، قال مدير شبكة الجيوستراتيجي للدراسات، إبراهيم كابان، إن الحرب الروسية الأوكرانية بحاجة دائمة إلى إعادة توازن في ميزان القوى، مؤكدًا أن ما يجري ليس مجرد حرب بين دولتين، بل هو حرب روسية ضد المجتمع الغربي، وفي طليعته الاتحاد الأوروبي.
وأضاف في تصريحات لـ"إرم نيوز" أن الدعم الأوروبي الواسع لأوكرانيا يمثل "معجزة" في سياق التوازنات الدولية، مشيرًا إلى أن الصراع بات أشبه بلعبة كر وفر، فكلما تقدمت روسيا، جاء الرد من كييف لاحقًا.
وأوضح مدير شبكة الجيوستراتيجي للدراسات أن أوكرانيا لم تعد دولة ضعيفة كما كانت، بل أصبحت تخوض حربًا أوروبية بامتياز، وروسيا تعي ذلك تمامًا.
ووصف كابان الوضع الميداني بأنه أقرب إلى "مستنقع أوكراني" للقوات الروسية، مضيفًا أن موسكو قد تفسح المجال لتقدم أوكراني في جبهة ما، فقط لتشن هجومًا مضادًا في جبهة أخرى.
وأشار كابان إلى أن الاستراتيجية الروسية تعتمد على استنزاف الدعم الغربي عبر إطالة أمد الحرب وخلق حالة من الانقسام السياسي داخل أوروبا.
وقال إن الكرملين يعول على عامل الوقت وتآكل الدعم الأوروبي لأوكرانيا بسبب الضغوط الاقتصادية والسياسية، وفي المقابل، تسعى كييف إلى ترجمة هذا الدعم إلى مكاسب ميدانية، ما يجعل المعركة مزيجًا من القوة العسكرية والرسائل السياسية.
وأشار مدير شبكة الجيوستراتيجي للدراسات إلى أن روسيا لا تريد نصرا سريعا بل تسعى إلى إنهاك خصومها، فيما تحاول أوكرانيا الحفاظ على زخم الدعم الغربي وتحقيق اختراقات تُبقيها في موقع الهجوم.