تواجه كوسوفو موجة "غضب دولي"، إثر إعلان الولايات المتحدة تعليق "الحوار الاستراتيجي" معها، في الوقت الذي تواصل فيه أوروبا فرض عقوبات اقتصادية شديدة عليها، ما قد يؤدي إلى عواقب استراتيجية وسياسية واقتصادية خطيرة على الدولة.
يأتي ذلك في ظل عجز حكومة كوسوفو عن السيطرة على الأقلية الصربية في شمال البلاد، التي تسعى للانفصال عنها.
ومنذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، وكوسوفو ترزح تحت نير عقوبات اقتصادية أوروبية "قاسية" أفضت إلى خسارتها لمشاريع تفوق قيمتها المالية 600 مليون يورو.
وعلى الرغم من أنّ ورقة العقوبات شددت على أنها مؤقتة وقابلة للمراجعة، إلا أنّها لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا، وأضرت بشكل ملحوظ بقطاعات استراتيجية واسعة.
ووفقا لتقرير مركز أبحاث كوسوفو، فإنّ الإجراءات الأوروبية تسببت في تعطيل كبير لمشاريع التنمية في البلاد، فقد تمّ تأجيل أو تعليق مشاريع بقيمة إجمالية تناهز الـ615 مليون يورو إلى أجل غير مسمى.
وتشمل المشاريع المعطلة، مجالات المنح وتطوير البنية التحتية والطاقة والتعليم والبيئة والرقمنة، وهي قطاعات أساسية لدولة جدّ صغيرة وحبيسة مثل كوسوفو يُبنى اقتصادها أساساً على المساعدات الأوروبية والأمريكية.
وتعوّل بريشتينا كثيراً على بعض المؤشرات الصادرة من بروكسل بإمكانية تخفيف وطأة العقوبات الاقتصادية عليها.
ويبدو أنّ فوز الحزب الحاكم – حزب تقرير المصير وهو حزب قومي يساري- في كوسوفو بالانتخابات البرلمانية في فبراير/ شباط 2025، قوبل بكثير من البرود السياسي والفتور الاستراتيجي من بروكسل.
ويتهم الاتحاد الأوروبي حكومة كوسوفو وعلى رأسها ألبين كورتي بإذكاء التّوترات في شمال البلاد.
ويرى خبراء أنّ الاتحاد الأوروبي أرسل رسالة مشفرة للناخب الكوسوفي في ديسمبر/ كانون الأول 2024 (قبل الانتخابات البرلمانية بأقل من شهرين فقط)، بضرورة تجنب التصويت لحزب "تقرير المصير" من خلال تأكيده بأنه سيرفع تدريجياً العقوبات على كوسوفو بالتوازي مع خطوات تعتمدها بريشتينا.
ونتيجةً لذلك، أعلنت المفوضية الأوروبية أنها بدأت العمل على رفع "تدريجي ومشروط وقابل للعكس".
ويضيف الخبراء أنّ أمرين اثنين يثبتان أنّ هذا الإعلان كان دعوة انتخابية وبالون اختبار للناخب الكوسوفي، الأول أنّه عندما طُلب من متحدث باسم الاتحاد الأوروبي توضيحًا، رفض تقديم تفاصيل بشأن الإجراء والجدول الزمني المحتمل والشروط التي يتعين على كوسوفو الوفاء بها فيما يتعلق بـ"التقدم على الأرض" و"تهدئة مستدامة" في شمال كوسوفو.
والأمر الثاني – وفق ذات الخبراء- أنّه وعلى مدى 10 أشهر كاملة من هذا الإعلان، لا وجود لأية خطوات إجرائية من قبل بروكسل للانخراط في مسار تخفيف العقوبات.
في هذه الأثناء، دقت هياكل اقتصادية كوسوفية ناقوس الخطر حيال الوضع المالي المتردي في البلاد، وهو وضع ساهم السياسيون في تأزيمه بعدم تشكيل حكومة ائتلافية نظراً لغياب غالبية برلمانية كاسحة.
وجاء في بيان صادر عن رابطة رجال الأعمال في كوسوفو إن الافتقار إلى المؤسسات الوظيفية والفشل في المصادقة على الاتفاقيات الدولية يؤدي إلى خسائر مالية ضخمة، مما يعوق تحول كوسوفو إلى اقتصاد أكثر قدرة على المنافسة والاستدامة.
وأضاف "وفقاً لبيانات LBK، خسرت كوسوفو من بداية عام 2024 وحتى النصف الأول من عام 2025 حوالي 600 مليون يورو بسبب عدم القدرة على الاستفادة من الأموال الدولية في قطاعات رئيسية مثل البيئة والطاقة والثقافة.
وتابع أنّ جمود المؤسسة البرلمانية حال دون الاستفادة من 90 مليون يورو من البنك الدولي، وهو مبلغ لا يزال مجدداً بسبب حالة الشلل البرلماني.
وتشير تقديرات بنك LBK إلى أن كوسوفو تخسر أكثر من 1.2 مليون يورو يومياً بسبب الأزمة المؤسساتية - وهو ما يشكل عبئاً ثقيلاً على اقتصاد هشّ ونامٍ.
الأزمة الكوسوفية تزداد حدّة مع الغضب الأمريكي المعلن من بريشتينا، وهو غضب مثّل قرار واشنطن بتعليق الحوار الاستراتيجي معها إحدى علاماته الجلية.
وفقاً لبرقية لوكالة "رويترز" بتاريخ 12/9/2025، أعلنت السفارة الأمريكية في بريشتينا أنّ الولايات المتحدة علّقت الحوار مع كوسوفو بشأن تعزيز العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية بسبب مخاوف من أن بعض الإجراءات التي اتخذتها الحكومة المؤقتة أججت "التوتر وعدم الاستقرار".
ولم تحدد السفارة الخطوات التي دفعتها إلى اتخاذ هذا القرار، لكن واشنطن اتهمت في السابق رئيس الوزراء ألبين كورتي بتأجيج التوتر في شمال كوسوفو ذي الأغلبية الصربية وتأخير إنشاء مؤسسات جديدة بعد الانتخابات البرلمانية في فبراير شباط.
ويبدو أنّ الأسباب أعمق من عدم اتخاذ حكومة كورتي خطوات ملموسة لنزع فتيل الأزمة مع الأقلية الصربية في شمال البلاد، حيث تؤكّد مصادر أمريكية أنّ الدّعم العلني من الرئيس الصربي ألكسندر فوسيتش لحملة إعادة انتخاب ترامب، ومصالح الأخير التجارية في صربيا، كلّها ترجح كفة صربيا على كوسوفو لدى ساكن البيت الأبيض.
انحياز إدارة ترامب لصربيا ضدّ كوسوفو، تجلى بوضوح بتعيين ريتشارد غرينيل، الذي انتقد كورتي بشكل مباشر وعنيف في الماضي، مبعوثاً رئاسياً خاصاً، وهو الذي حظي في عام 2023 بوسام العلم الصربي.
ولم ينتظر غرينيل كثيراً في منصبه الجديد، لتوجيه أصابع الاتهام وكيل الانتقادات المباشرة لكورتي، حيث إنّه دحض في فبراير/ شباط 2025، بشكل مباشر وعلني تصريح كورتي بقوة ومتانة العلاقات الأمريكية الكوسوفية، بالقول هذا "واهم".
كما يعمد المسؤولون الأمريكيون بصفة لافتة إلى تكذيب كافة التصريحات الكوسوفية الرسمية أو غير الرسمية بتحسن العلاقات بين الطرفين.
ففي مقابلة مع القناة التلفزيونية "REL" صرّح السفير الأمريكي السابق لدى كوسوفو جيفري هوفينير بشكل واضح أن العلاقات بين رئيس الوزراء المؤقت ألبين كورتي والولايات المتحدة ليست في حالة جيدة، على الرغم من مزاعم بعض المسؤولين وأنصار حكومة كوسوفو عكس ذلك.
وقال هوفينير، "يقول البعض إن ألبين كورتي وحكومة كوسوفو لا يزالان يتمتعان بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة، لكن هذا ببساطة غير صحيح، لو كانت العلاقات جيدة لما كانت هناك حاجة لمثل هذه الخطوة الجادة مثل تعليق الحوار الاستراتيجي، وهي آلية رئيسية لتنسيق وتعميق التعاون بين البلدين".
في المحصلة، لا تزال كوسوفو في مأزق استراتيجيّ حيث تقبع بين "نار" واشنطن و"رمضاء" أوروبا، وفي شمالها "رماد" صربي قابل للاشتعال في أي وقت، فيما تنتظر صربيا لحظة الانقضاض على الشمال، وهي لحظة غير مستبعدة مع النية الأمريكية المعلنة بمغادرة قواتها لقوات "الناتو" المتمركزة في كوسوفو.