في تحول دراماتيكي قد يعيد تشكيل المشهد الجيوسياسي الأوروبي، تتجه القارة العجوز نحو فتح قنوات اتصال مباشرة مع موسكو بعد إحباطها المتزايد من نهج إدارة الرئيس دونالد ترامب تجاه الحرب في أوكرانيا.
فبعد أن وجدت نفسها مستبعدة من المفاوضات الأمريكية الروسية، تدرك العواصم الأوروبية أن أمنها القومي وسيادتها الاستراتيجية أصبحا رهينة لصفقة قد تُعقد دون استشارتها، مما دفع قادة مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للدعوة علناً إلى ضرورة إعادة الانخراط المباشر مع الكرملين.
لكن الخبير الأوكراني جلين جرانت يحذر في تصريحات حصرية لموقع "أرم نيوز" من أي محاولات للتفاوض مع الرئيس الروسي، مؤكداً لا يمكن أن تكون هناك مفاوضات مع بوتين.
في خطوة مفاجئة، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بروكسل، عقب قمة أوروبية توصلت إلى اتفاق بشأن منح قرض بقيمة 90 مليار يورو لأوكرانيا، أنه "أصبح من المفيد التحدث مجدداً إلى فلاديمير بوتين".
وشدد الرئيس على أن "الأوروبيين والأوكرانيين لديهم مصلحة في إيجاد الإطار المناسب لإعادة الانخراط في هذا النقاش بالطريقة الصحيحة. وإلا، سنجد أنفسنا نتناقش فيما بيننا مع مفاوضين سيذهبون بعد ذلك للتفاوض مع الروس بمفردهم"، واصفاً هذا السيناريو بأنه "ليس مثالياً".
تأتي هذه التصريحات في سياق إحباط أوروبي متزايد من استبعادها عن المحادثات الأمريكية-الروسية المباشرة التي بدأها ترامب دون إشراك كامل للحلفاء الأوروبيين، مما أثار موجة قلق عبر القارة العجوز.
وفي تطور لافت الأحد، أعرب الرئيس الروسي عن استعداده لإجراء حوار مباشر مع نظيره الفرنسي. وأكد المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف لوكالة "ريا نوفوستي" أن بوتين "مستعد للحوار" مع ماكرون.
ورحبت الرئاسة الفرنسية (الإليزيه) على الفور بهذا الاستعداد الروسي. وقال الإليزيه في بيان: "من دواعي الترحيب أن الكرملين قد وافق علناً على هذا النهج. وسنقرر في الأيام المقبلة أفضل طريقة للمضي قدماً".
لكن المتحدث باسم الكرملين علق على تصريحات ماكرون قائلاً إن أوروبا ستحتاج "للتحدث مع واشنطن لتحديد مكانها بطريقة ما"، حيث تدرك موسكو جيداً أن انقسام الجبهة الأوروبية الأمريكية يصب في مصلحتها. فكلما زاد الخلاف بين حلفاء أوكرانيا، كان موقف بوتين التفاوضي أقوى.
القلق الأوروبي لا يقتصر على الاستبعاد من المفاوضات الجارية بين أوكرانيا وموسكو بوساطة أمريكية فحسب، بل يمتد إلى طبيعة الاتفاق المحتمل. فالمسؤولون الأوروبيون يخشون أن تفضي محادثات ترامب-بوتين إلى "سلام مُملى" على أوكرانيا يقوض أمن القارة بأكملها.
كايا كالاس، الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، وصفت التحركات الأمريكية الأخيرة بأنها "استرضاء"، وأدانت استبعاد أوروبا وأوكرانيا من المفاوضات، محذرة: "إذا تم التوصل لاتفاق من وراء ظهورنا، فلن ينجح ببساطة".
إدارة ترامب أشارت بوضوح إلى أن أوكرانيا لن تحصل على عضوية الناتو، وأن استعادة أراضيها المحتلة هدف "غير واقعي" وهو موقف يتماشى تماماً مع مطالب الكرملين.
هذه ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها ماكرون مع بوتين. فبعد رئيسي المجر والسلوفاك المعروفين بقربهما من موسكو، يُعتبر ماكرون القائد الأوروبي المؤيد لكييف الأكثر حواراً مع الرئيس الروسي منذ بدء الحرب الشاملة على أوكرانيا في 24 فبراير 2022.
وفقاً لوكالة أسوشييتد برس، تحدث الرجلان أربع مرات بين 24 فبراير و7 مارس 2022، وأجريا ما يصل إلى 11 اتصالاً غير رسمي خلال شهر فبراير، عندما كانت الجهود الدبلوماسية الفرنسية لا تزال تهدف إلى منع الحرب.
لكن أمام رفض موسكو وقف الأعمال العدائية، توقفت هذه المحادثات الهاتفية بين سبتمبر 2022 ويوليو 2025. في 1 يوليو الماضي، استأنف ماكرون وبوتين الاتصال بمكالمة استمرت نحو ساعتين ناقشا فيها أوكرانيا والشرق الأوسط.
الخبير الأوكراني جلين جرانت يشكك في جدوى أي محاولات للتفاوض مع بوتين، مؤكداً في تصريحات لموقع "إرم نيوز" أن "بوتين لا يريد مفاوضات ولن يقدم تنازلات".
وأضاف جرانت أن "أوكرانيا لن تناقش مسألة الأراضي قبل وقف إطلاق النار الروسي"، مشدداً على أن أي محاولات للحوار في ظل هذه الظروف ستكون عديمة الجدوى.
تأتي تحذيرات جرانت في وقت تتزايد فيه المخاوف من أن الحوار الأوروبي الروسي المباشر قد يُفسر على أنه ضعف، أو قد يؤدي إلى تقويض الموقف الأوكراني في أي مفاوضات مستقبلية.
فالتاريخ يشير إلى أن محاولات ماكرون السابقة للحوار مع بوتين لم تنجح في منع الحرب أو وقف الأعمال العدائية، مما يثير تساؤلات حول فعالية أي جهود دبلوماسية جديدة.
يرى الخبير جورن فليك من مجلس الأطلسي أن "موقف ترامب التفاوضي مع روسيا يفشل في احترام رؤية ماكرون والقادة الأوروبيين الآخرين لروسيا كتهديد وجودي".
وأضاف أن هذه لحظة حاسمة لفرنسا التي يمكنها الآن الادعاء بأنها ربحت النقاش حول "الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية".
من جهتها، تشير الخبيرة ليوني ألارد إلى أن استجابة أوروبية منسقة باتت أكثر ضرورة من أي وقت مضى، مقترحة أن أحد الخيارات قد يشمل إرسال فرنسا وبريطانيا خبراء عسكريين وأعداد محدودة من القوات في "مناطق غير متنازع عليها" داخل أوكرانيا.
مفهوم "الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية" الذي ظل لفترة طويلة مجرد شعار، يواجه الآن اختبار الواقع. فماكرون، من بين أوروبيين آخرين، أوضح أن أوروبا تدعم السلام، لكنها لن تؤيد صفقة غير عادلة وهشة بين روسيا والولايات المتحدة من شأنها أن تقوض الأمن الأوكراني والأوروبي.
الرؤية الفرنسية بأن "أوروبا قد تموت" إذا لم تسعَ لطموحات أقوى لدفاعها واستقلالها الاقتصادي والصناعي، تواجه الآن فحصاً للواقع. فباريس ترى أن فرنسا، مهما فعلت الولايات المتحدة، ستستمر في اعتبار روسيا تهديداً وجودياً.
لكن الطريق نحو الاستقلالية مليء بالتحديات. فأوروبا تعاني من انقسامات داخلية عميقة، واقتصاد راكد، وقيود مالية، وأزمة ثقة في القيادة الأمريكية. الدول الأوروبية اتفقت على زيادة الإنفاق الدفاعي، لكن تنفيذ ذلك يتطلب إرادة سياسية قوية وإصلاحات دستورية معقدة في بعض الدول مثل ألمانيا.
رغم دعوات ماكرون، تظل هناك عقبات كبيرة أمام إعادة الحوار الأوروبي-الروسي:
الانقسامات الداخلية: معظم دول الاتحاد الأوروبي، باستثناء المجر وسلوفاكيا، قطعت الاتصالات مع بوتين منذ الحرب. دول البلطيق وبولندا ودول إسكندنافيا تظل حذرة من أي محاولات "لاسترضاء" الكرملين.
الثقة المفقودة: ماكرون نفسه كان من القادة القلائل المنخرطين في محادثات مباشرة مع بوتين قبل الحرب الشاملة عام 2022، حيث أكد له بوتين أنه لن يشن الحرب ما أضعف مصداقية الحوار المباشر.
الضغط الشعبي: الرأي العام الأوروبي منقسم، بينما تشير استطلاعات رأي أخيرة إلى أن معظم الأوروبيين يتوقعون أو يفضلون تسوية تفاوضية لإنهاء الحرب، لا يزال هناك دعم قوي لأوكرانيا، خاصة في أوروبا الشرقية.
الموقف الأوكراني: كييف رفضت بشكل قاطع أي محادثات تستبعدها. الرئيس زيلينسكي أكد أن أوكرانيا "كدولة ذات سيادة لن تقبل أي اتفاقيات دوننا".
وهو ما يعززه تحذير الخبير جلين جرانت من أن أوكرانيا لن تناقش الأراضي قبل وقف إطلاق النار الروسي، وأن بوتين نفسه غير مستعد للتنازلات.
أوروبا تقف اليوم أمام خيار صعب، إما قبول دور ثانوي في مفاوضات يقودها ترامب وبوتين، أو الدفع نحو دور أكثر استقلالية حتى لو تطلب ذلك حواراً مباشراً مع موسكو. دعوة ماكرون لإعادة الانخراط مع بوتين تمثل اعترافاً بالواقع الجديد، أن أمن أوروبا لم يعد يمكن الاعتماد فيه كلياً على الولايات المتحدة.
لكن هذا التحول يأتي مع مخاطر كبيرة، فالحوار الأوروبي الروسي المباشر قد يُفسر على أنه ضعف، أو قد يؤدي إلى مزيد من الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي.
وكما يحذر جلين جرانت، فإن بوتين نفسه لا يريد مفاوضات حقيقية ولن يقدم تنازلات، مما يجعل أي محاولات للحوار محفوفة بالمخاطر وربما عديمة الجدوى.
في نهاية المطاف، نجاح أو فشل هذا التوجه سيتحدد بقدرة أوروبا على التحدث بصوت واحد، وتقديم بديل حقيقي للمفاوضات الأمريكية، مع الحفاظ على دعمها لأوكرانيا وضمان أن أي تسوية سلمية لن تقوض الأمن الأوروبي على المدى الطويل وهو أمر يبدو صعب التحقق في ظل التحذيرات من عدم جدوى التفاوض مع موسكو في الوقت الراهن.