مسيّرة تستهدف سيارة على طريق بلدة مركبا جنوبي لبنان
تبدو واشنطن، هذه المرة، أكثر وضوحاً في رسم "الخط الأحمر الأمريكي" في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة؛ لا مقاعد وزارية للفصائل المسلحة، ولا لقيادات مُدرجة على لوائح العقوبات. هذا ما تعكسه سلسلة الرسائل السياسية والاقتصادية والأمنية التي وصلت تباعاً إلى بغداد خلال الأسابيع الماضية، من خلال تصريحات علنية، وتسريبات دبلوماسية، وأيضاً عبر قرارات عقابية طالت شركات، ومصارف، وشخصيات مرتبطة بـ"الحشد الشعبي"، وفصائل مرتبطة بإيران.
وبينما تحاول قوى "الإطار التنسيقي" ومعها طهران تثبيت تمثيل سياسي وازن لهذه الفصائل في الوزارة المقبلة، تراهن واشنطن على مزيج من التهديد بعدم الاعتراف بالحكومة، وتصعيد العقوبات، والضغط عبر بوابة الدولار والاستثمار، في محاولة لإعادة هندسة التوازن داخل السلطة التنفيذية دون الذهاب إلى صدام مباشر مع الدولة العراقية.
في المقابلات الأخيرة، كشف وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين أن الولايات المتحدة أبلغت بغداد، بشكل صريح، بأن الأحزاب والشخصيات المُدرجة على لوائح العقوبات "لن يكون لها مكان" في الحكومة المقبلة، فيما يشبه "فيتو" أمريكياً مسبقاً على مشاركة 6 فصائل مسلحة على الأقل في أي تشكيل وزاري جديد.
وبحسب مصادر سياسية عراقية تحدثت لـ"إرم نيوز"، فإن هذه الرسالة لم تُنقل فقط عبر القنوات العلنية، بل جرى تأكيدها في لقاءات مغلقة بين مسؤولين أمريكيين وعراقيين، حيث تم إبلاغ بغداد بأن إشراك أي من هذه الفصائل في وزارات سيادية أو خدمية رئيسة "سيعرّض الحكومة لمقاطعة أمريكية وأوروبية واسعة، ويجمّد عملياً قنوات التعاون المالي والعسكري والاستثماري".
هذه الأجواء تتقاطع مع تسريبات نقلتها وسائل إعلام دولية عن تحذير أمريكي من عدم الاعتراف بالحكومة إذا مُنحت الوزارات لفصائل مرتبطة بطهران.
وفي موازاة ذلك، يواصل المبعوث الرئاسي الأمريكي إلى العراق، مارك سافايا، تصعيد لهجته عبر منصة "إكس"، بالدعوة إلى "إبعاد السلاح عن السياسة" واعتبار بناء مؤسسات قادرة على إنفاذ القانون شرطاً لأي شراكة طويلة الأمد مع بغداد، بما يعكس تبنّي واشنطن رواية تقول إن الفصل بين الدولة والفصائل شرط لعودة العراق إلى "الوضع الطبيعي".
لا تملك الولايات المتحدة القدرة على فرض رئيس وزراء أو تحالف محدد، لكنها تمتلك، بحسب مصادر سياسية عراقية تحدثت لـ"إرم نيوز"، "قدرة كبيرة على جعل أي حكومة غير مرغوب فيها دولياً" إذا اعتبرتها رهينة للفصائل.
وفقاً لهؤلاء، فإن أبرز أدوات الضغط الأمريكية تتمثل في ورقة الاعتراف السياسي والشرعية الدولية. تقارير إعلامية تحدثت عن رسائل أمريكية غير معلنة مفادها أن حكومة تُسند فيها حقائب أساسية إلى فصائل مسلحة أو شخصيات معاقَبة "لن تُعامل كشريك كامل"، ولن تحظى بدعم في المؤسسات المالية الدولية، ما يعني عملياً محاصرة قدرتها على الاقتراض، والحصول على تسهيلات، وجذب استثمارات كبرى.
أما الوسيلة الثانية للضغط، فتقوم على "الضغط عبر النظام المالي والدولار"، حيث كانت وزارة الخزانة الأمريكية، قد سعت، خلال العامين الماضيين، عقوباتها على مصارف وشركات عراقية مرتبطة بشبكات تمويل إيرانية وفصائل حليفة لها، من بينها "شركة المهندس العامة" الذراع الاقتصادية للحشد الشعبي، إلى جانب توسيع قائمة البنوك الممنوعة من التعامل بالدولار، وهو ما خلق "كابوس سيولة" في السوق العراقية، بحسب تقارير اقتصادية.
وتتضمن أدوات الضغط، وفق المصادر السياسية العراقية، السلاح والوجود العسكري. ففي الوقت الذي يربط فيه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إمكانية نزع سلاح الفصائل بإكمال انسحاب قوات التحالف بحلول 2026، تلوّح واشنطن - عبر رسائل سياسية وأمنية - بأن استمرار استهداف مصالحها والقواعد المرتبطة بها من قبل الفصائل سيُبقي ملف الانسحاب نفسه رهينة للتوتر، ما يضغط على الحكومة بين مطلب داخلي بإنهاء الوجود الأجنبي ومطالب أمريكية بكبح الفصائل.
يضاف إلى كل ما سبق، العقوبات القطاعية والطاقة. وسبق أن استخدمت واشنطن ورقة الإعفاءات من العقوبات على استيراد الطاقة من إيران، وورقة الاستثمار في قطاع النفط والغاز والكهرباء، كأدوات ضغط غير معلنة، في بلد يعتمد على النفط والدولار كلياً تقريباً لتمويل دولته. وهذا يجعل أي حكومة جديدة بحاجة إلى "ضوء أخضر" أمريكي لكي تنفذ خططها الاقتصادية متوسطة وطويلة الأمد.
في الجهة المقابلة، تسعى طهران، بحسب تقديرات مراكز أبحاث غربية، إلى ضمان تمثيل حلفائها داخل الحكومة المقبلة، ليس فقط عبر مقاعد وزارية رمزية، بل عبر الاحتفاظ بنفوذ حقيقي في وزارات وملفات حساسة، مثل: الكهرباء، والنفط، وهيئات المنافذ والجمارك، وملف الحشد الشعبي.
مصادر عراقية مطّلعة على جانب من هذه المشاورات تقول لـ"إرم نيوز" إن الموفدين الإيرانيين الذين يتنقّلون بين مقار الأحزاب الشيعية في بغداد والنجف "لا يمانعون مبدأ تهدئة خطاب بعض الفصائل، أو حتى قبول خروج أسماء معينة من الواجهة، لكنهم يرفضون مبدأ الإقصاء الكامل، ويصرّون على أن يبقى لفصائل الحشد الشعبي وزن داخل السلطة التنفيذية يضمن استمرار شبكة المصالح الأمنية والاقتصادية المشتركة".
وتضيف هذه المصادر أن "الخط الأحمر الإيراني" يقابل "الخط الأحمر الأمريكي"، وبالنسبة لواشنطن، العنوان هو عدم منح الوزارات للفصائل المعاقَبة أو ذات الأجنحة المسلحة. أما بالنسبة لطهران، فالعنوان هو عدم السماح بولادة حكومة "محايدة" تنقلب على الحشد، وتغلق قنوات التمويل والتسليح الإقليمية.
بين الخطين الأحمرين، تحاول القوى العراقية إيجاد تسوية تحفظ ماء وجه الجميع. بعض المقترحات المتداولة، وفق ما تنقله مصادر سياسية لـ"إرم نيوز"، تشمل تسمية تكنوقراط مقربين من الفصائل لتولّي حقائب خدماتية، دون أن يظهر اسم الفصيل مباشرة في التشكيلة. والتركيز على تمثيل سياسي للفصائل داخل البرلمان واللجان النيابية مقابل تقليص حضورها في الوزارات السيادية والمالية والاقتصادية. وإعادة هندسة وضع "الحشد الشعبي" قانونياً بحيث يبقى إطاراً رسمياً تحت إمرة القائد العام، مع ضبط أذرعه الاقتصادية وإبعادها عن العقود الكبرى.
غير أن هذه "التسويات على الورق" تصطدم – برأي المصادر – بحقيقة أن نفوذ الفصائل لا يتوقف عند عدد المقاعد الوزارية، بل يمتد إلى شبكة واسعة من الشركات، والمنافذ الحدودية، والاقتصاد الموازي، فضلاً عن حضورها في الأجهزة الأمنية نفسها، وهو ما يجعل المطلب الأمريكي بـ"حكومة نظيفة من الفصائل" أقرب إلى هدف طويل الأمد منه إلى شرط قابل للتطبيق الفوري.
وفق تقدير المسؤول في "مركز الغد للدراسات" محمد العبدلي، فإن مهمة المبعوث مارك سافايا ستكون "اختباراً لقدرة بغداد على إنتاج حكومة متوازنة لا تُستفزّ منها واشنطن، ولا تشعر معها طهران بأنها خاسرة بالكامل".
لكن "المؤشرات الحالية توحي، وفقاً للعبدلي، بأن الخط الأحمر الأمريكي في تشكيل الحكومة العراقية بات أكثر صلابة من أي وقت مضى"؛ فهو هذه المرة مدعوم بحملة عقوبات مالية متدحرجة، وبتشدد متزايد في ملف السلاح خارج الدولة، وباستعداد أمريكي لاستخدام ورقة عدم الاعتراف بالحكومة إذا لزم الأمر.
في المقابل، تراهن إيران وحلفاؤها على الزمن، وعلى أن بغداد لا تستطيع تحمل كلفة قطيعة مع محور وفر لها، طوال عقدين، أدوات نفوذ وسلاحاً ومظلة سياسية في مواجهة الضغوط الخارجية.
وبين هذا وذاك، يبدو أن العراقيين مقبلون على مرحلة تفاوض شاق؛ إما أن تنتج تسوية معقولة تحمي الدولة من الانهيار الاقتصادي والعزلة الدبلوماسية، وإما أن يتحول "الخط الأحمر الأمريكي" إلى أزمة شرعية كاملة للحكومة المقبلة، بما يفتح الباب لجولة جديدة من التجاذب بين واشنطن وطهران، ولكن على الأرض العراقية هذه المرة أيضاً.