logo
العالم العربي
خاص

هندسة الغموض في الجنوب اللبناني.. سلام بالتقسيط أم انفجار مؤجل؟

هندسة الغموض في الجنوب اللبناني.. سلام بالتقسيط أم انفجار مؤجل؟
الرئيس اللبناني جوزيف عون والمبعوث الأمريكي توماس باراكالمصدر: الرئاسة اللبنانية
24 يوليو 2025، 3:02 م

يشهد لبنان منذ أشهر تحركاً دبلوماسياً أمريكياً يتّصل مباشرة بواقع الجنوب وملف سلاح ميليشيا حزب الله.

غير أن هذا التحرك اتخذ في الأسابيع الأخيرة طابعاً أكثر وضوحاً وضغطاً، لا سيما بعد الزيارة الأخيرة للمبعوث الأمريكي توم باراك إلى بيروت، يوم الاثنين الماضي، ولقاءاته مع كبار المسؤولين اللبنانيين.

وبحسب ما أفادت مصادر سياسية لبنانية، لـ"إرم نيوز"، فإن المقترحات الأمريكية تركّز على إعادة تنظيم العلاقة بين الدولة والسلاح، من خلال خطوات تنفيذية تُنفّذ تدريجياً، لكن دون اتفاق سياسي داخلي واضح أو إطار تفاوضي معلن. 

وحتى الآن، لا يظهر أن هناك موقفاً لبنانياً موحداً، بل تمايزات في درجة التفاعل مع الطرح، ففي حين تبدي رئاسة الحكومة انفتاحاً محدوداً على مناقشة الجوانب التقنية، يلتزم قصر بعبدا الحذر، ويتحرك رئيس مجلس النواب نبيه بري ضمن هامش لا يصطدم مع حزب الله، ولا يُغلق الباب أمام المساعي الأمريكية.

في المقابل، يرفض حزب الله مناقشة أي بند يتعلق بسلاحه، ويرى أن الطرح الأمريكي لا ينفصل عن أهداف إسرائيلية طويلة المدى، حتى وإن جرى تقديمه عبر عناوين إنمائية واستقرارية.

وهكذا يبقى الجنوب، مرّة أخرى، خارج التفاهم الوطني، وتحت تأثير ضغط خارجي لا يجد له مقابلاً داخلياً قادراً على التحوّل إلى مسار تفاوضي فعلي.

أخبار ذات علاقة

جنود من الجيش اللبناني

مراوغة وخلط أوراق.. هل يسحب لبنان سلاح حزب الله "بقوة الجيش"؟

 صياغة موقف لبناني من دون كلفة داخلية

مصادر سياسية لبنانية كشفت، لـ"إرم نيوز"، أن دوائر ضيقة في قصر بعبدا بدأت خلال الأيام الماضية تدارساً داخلياً حول كيفية التعامل مع الحضور الأمريكي المتصاعد، وسط قناعة رئاسية بأن الانكفاء الكامل لم يعد مجدياً، خاصة مع ربط المساعدات الدولية، بما فيها تلك المتعلقة بملفات الكهرباء والبنك الدولي، بتقدّم نوعي في ملف الجنوب.

المصادر أكّدت أن الطرح الجاري داخل القصر الرئاسي يقوم على محاولة إنتاج "صيغة وطنية" تتبنّى خطاب السيادة وحصر السلاح في يد الدولة، دون أن تتضمن أي إجراءات تنفيذية، بحيث تُمنح بيروت ورقة مناورة في المحافل الدولية دون استفزاز البيئة الحاضنة لحزب الله.

وأشارت المصادر إلى تداول نسخة غير رسمية داخل بعض الدوائر السياسية في بيروت، تتضمن أفكاراً أكثر مرونة، من بينها حصر السلاح الثقيل في مناطق محددة، وتحويل بعض المهام الأمنية إلى أجهزة الدولة ضمن "نطاقات مشتركة" لا تتضمن صداماً مباشراً مع الحزب.

إلا أن هذه النسخة، بحسب المصادر، لم تُناقش بعد على أي مستوى رسمي، وتبقى ضمن نطاق الاختبار السياسي.

وختمت المصادر بالتأكيد على أن واشنطن لا تتوقّع من بيروت تفاهماً فورياً أو إعلاناً صريحاً، بل تريد إشارات جدية على أن ملف الجنوب لم يُغلق، وأن أدوات الردع غير الرسمية لن تبقى خارج الرقابة الحكومية للأبد، وهو ما قد يشكّل المعضلة المركزية للسلطات اللبنانية العالقة بين قبول الضغوط وتجنّب الصدام الداخلي.

الجنوب تحت إدارة الغموض

وفي تصريحات أعقبت لقاءه مع رئيس الحكومة اللبنانية، قال المبعوث الأمريكي توم باراك، إن مسألة نزع سلاح حزب الله تُعدّ "شأناً داخلياً بامتياز"، في محاولة واضحة للظهور بموقع الطرف غير المتدخّل مباشرة في البنية السياسية اللبنانية، وإن ظلّ ضغطه مستمراً عبر ملفات ميدانية واقتصادية موازية.

بالتوازي، أعلنت رئاسة الجمهورية أنها سلّمت الوفد الأمريكي مذكرة شاملة تتضمّن تصور الدولة اللبنانية لكيفية تطبيق ما تم التوافق عليه في إعلان 27 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2024.

وأشارت الرئاسة إلى أن المذكرة تؤكّد ضرورة بسط سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية، وحصر السلاح في يد المؤسسات العسكرية والأمنية الشرعية، دون سواها.

بهذا المعنى، لا تُعبّر هذه التحركات عن ديناميكية حلّ بقدر ما تعكس استمرار التعامل مع الجنوب كملف مُعلّق، لم يُحسم على مستوى الدولة، ولم تُتح له شروط التسوية سواء داخلياً أو إقليمياً، فهو ليس ساحة اشتباك مفتوح، لكنه أيضاً ليس ضمن نطاق السيادة المؤسسية الفعلية، ما يجعله رهينة ضغوط خارجية وتفاهمات غير مكتملة، بحسب حديث المحلل السياسي اللبناني جوزيف كرم، لـ"إرم نيوز".

أخبار ذات علاقة

عناصر من حزب الله

خبراء: الرد اللبناني على باراك يمنح إسرائيل ذريعة للحرب

 ومع اتّساع النقاش حول تثبيت الوضع القائم في الجنوب، تبرز أسئلة أكثر عمقاً حول كيفية إعادة صياغة العلاقة بين الدولة اللبنانية وحزب الله ضمن هذه المعادلة، وما هي حدود قدرة الجيش على تولّي أدوار إضافية دون غطاء سياسي شامل.

وفي تحرّكها الأخير تجاه لبنان، لا تبدو واشنطن بصدد صياغة تسوية سياسية، بل أقرب إلى صياغة معادلة ضبط أمني منخفض التكاليف، خالية من بنية الاتفاقات ومجردة من الاعترافات المتبادلة، وفق رأي المحلل كرم.

ويتابع: "المبعوث الأمريكي توم باراك لم يأتِ محمّلاً بمبادرة شاملة أو حتى ورقة تفاهم يمكن البناء عليها، بل حمل في جعبته جملة عروض تقنية مفرغة من أي مضمون سيادي، ترتكز على تقديم تسهيلات اقتصادية مشروطة ووعود تمويل تنموي محدود، في مقابل تهدئة ميدانية يُفترض أن تحدث من تلقاء ذاتها، من دون اتفاق واضح أو إطار ناظم".
 
وفي جوهرها، تُعيد هذه المقاربة إنتاج منطق "الهندسة الواقعية للصراع"؛ أي السعي إلى صناعة أمر واقع جديد على الأرض، يُدار بالاتصالات والضمانات غير المكتوبة، ولا يرتكز على ميثاق سياسي أو حتى حد أدنى من التوافق الداخلي، بحسب كرم.

ويقول: "يبدو أن باراك يستلهم من حيث الشكل، تجربة الترسيم البحري عام 2022، لكنه يسقط منها العنصر الوحيد الذي أعطاها شرعية نسبية حينها؛ إعلانها كعملية تفاوضية برعاية أممية وإقرار داخلي. أما في الحالة الراهنة، فالمطلوب هو تهدئة صامتة تُفرض وتُدار، وتتخذ من الغموض أداة، ومن الضبابية استراتيجية".

وزيارة باراك هي الثالثة له خلال الشهرين الماضيين، وجاءت بهدف تلقي رد رسمي على مقترح أمريكي لنزع سلاح حزب الله، الذي قدمه في زيارته الثانية.

إلا أن بيروت لم تقدم جدولاً زمنياً أو خطوات ملموسة لنزع السلاح، بل طلبت من الولايات المتحدة الضغط على إسرائيل للانسحاب تدريجياً من جنوب البلاد، في المقابل، سيتخذ لبنان خطوات نحو تثبيت السلاح تحت سيطرة الدولة.

أخبار ذات علاقة

لقاء سابق بين سلام وماكرون

يتصدرها سلاح حزب الله.. سلام يحمل ملفات "ثقيلة" إلى فرنسا

 المؤسسة العسكرية بين الحضور والعجز

ورغم أن الجيش اللبناني يُفترض أن يكون الطرف المكلّف رسمياً بحفظ الاستقرار في الجنوب وتنفيذ السياسات الأمنية للدولة، إلا أن دوره الفعلي يبقى محدوداً وغير قابل للتوسّع دون توافق سياسي داخلي واضح، بحسب حديث الباحث السياسي، طلال خليفة، لـ"إرم نيوز". 

فالمؤسسة العسكرية، وفق خليفة، وإن حافظت على درجة عالية من الانضباط المهني، لا تملك تفويضاً سياسياً جامعاً يمكّنها من التحرك بحرّية في ملف بالغ الحساسية كملف الجنوب، ولا تمتلك القدرة الميدانية التي تتيح لها التعامل مع البنية المركّبة لحضور حزب الله، والتي لا تقتصر على القوة المسلحة، بل تمتد إلى مستويات اجتماعية وعقائدية تتجاوز منطق التعامل الأمني المباشر.

في المقابل، تتحرك الولايات المتحدة في هذا الملف من موقع لا يُركّز على مقاربة سياسية شاملة، بل على إدارة ظرفية للمخاطر.

ويتابع خليفة أن "التحرك الأمريكي لا يعكس رغبة في إعادة تشكيل البيئة اللبنانية أو الدخول في مفاوضات متكاملة حول مستقبل التوازنات الداخلية، بل يندرج ضمن حسابات إقليمية أوسع، تحاول تطويق احتمالات الانفجار على الجبهة الشمالية لإسرائيل، في وقت لا تزال فيه ملفات كغزة والجولان مفتوحة، ومسارات التطبيع مع بعض الدول العربية متعثرة أو غير مستقرة".

أخبار ذات علاقة

جنود أتراك يقفون بالقرب من مركبات مدرعة

"مكتب الظل".. كيف تدير تركيا مشروع نفوذها السري في شمال لبنان؟

 ويختم خليفة حديثه، لـ"إرم نيوز"، بالقول إن هذه المقاربة التي تبدو تقنية في ظاهرها، تصطدم سريعاً بمجموعة من التعقيدات، ليس فقط في الداخل اللبناني، بل في البنية الإقليمية المحيطة به. 

فالعلاقة بين حزب الله وطهران، رغم تماسُكها الاستراتيجي، لا تُبدي حتى الآن تقاطعاً واضحاً حول صيغة تهدئة دائمة في الجنوب، كما أن الفجوة بين الإدارة الأمريكية ومؤسسات الدولة اللبنانية، بما فيها المؤسسة العسكرية، تمنع نشوء أي إطار عملي مشترك يُعوَّل عليه لضبط الملف.

يضاف إلى ذلك تفكك النظام السياسي الداخلي، الذي لا يبدو قادراً على إنتاج موقف موحّد تجاه القضايا السيادية، في ظل التنازع المستمر بين منطق الدولة ومنطق النفوذ الفئوي.

وبذلك، لا يبدو ملف الجنوب محصوراً ببعده الأمني، بل يتحوّل إلى مساحة عالقة بين ضغوط الخارج وحسابات الداخل، في غياب أي بنية تفاهم حقيقية، إنه مرآة لأزمة مركّبة لا تتعلق بلبنان وحده، بقدر ما تعكس عجز الإقليم عن إنتاج نظام أمني متماسك، أو صيغة استقرار تُبنى على توازنات قابلة للاستمرار.

;
logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة © 2024 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC