يجد العراق نفسه في مرحلة سياسية حرجة مع ضغوط خارجية ومشاكل داخلية متفاقمة، في وقت لم تفض فيه العملية الانتخابية الأخيرة إلى اختراق واضح في بنية الحكم أو تغيير جوهري في آليات إدارة السلطة.
وبعد مصادقة المحكمة الاتحادية على النتائج النهائية، دخلت البلاد عملياً في سباق تشكيل حكومة جديدة، وسط مشهد يوحي بإعادة تدوير الأدوات ذاتها، مع اختلاف محدود في الوجوه والأساليب.
وخلال الأيام الماضية، تكثفت اجتماعات قوى الإطار التنسيقي (الممثل السياسي للأحزاب الشيعية) لحسم اسم رئيس الوزراء المقبل، إلا أن هذه الاجتماعات لم تنته إلى قرار نهائي، مع تداول أسماء تطرح ثم تستبعد، وأخرى تعاد إلى الواجهة، في مسار يؤشر على حجم الصراع داخل التحالف الشيعي الأكبر، وتباين الحسابات المرتبطة بالمرحلة المقبلة.
ويوازي هذا التعثر السياسي واقع اقتصادي ضاغط، فرض على الحكومة اتخاذ إجراءات وُصفت بأنها حساسة، شملت تقليص الإنفاق، وتقنين البطاقة التموينية، وتقليل نفقات الإيفاد للخارج بنسبة 90%، في محاولة لاحتواء الاختلالات المالية المتراكمة.
في هذا السياق، يرى باحثون أن الأزمة لا تنحصر في مسألة تشكيل الحكومة بقدر ما ترتبط بطبيعة الخيارات المطروحة لإدارة المرحلة، وما إذا كانت ستقود إلى معالجة واقعية أو تكتفي بحلول مؤقتة تؤجل الانفجار لمرحلة مقبلة.
بدوره يرى الباحث السياسي عبد الغني الغضبان أن "العراق يقف اليوم على شفا حفرة، وما يدور ليس بوابة لمخرج إيجابي بقدر ما هو مفترق يقود إما إلى حلول ترقيعية مؤقتة أو إلى مخرج محفوف بالمخاطر".
وأضاف الغضبان لـ"إرم نيوز" أن "الإجراءات الحالية تُدار في ظل انسداد سياسي واضح، فالإطار التنسيقي يجتمع ويحدد أسماء ثم يستبعد أخرى ويعيد طرح بدائل، من دون أن يصل إلى قرار نهائي بشأن تسمية رئيس الوزراء، وهو ما يعطي صورة واضحة عن حجم المعضلات التي تواجه البلاد بعد مصادقة المحكمة الاتحادية".
ويشير الغضبان إلى أن هذا المشهد لا ينفصل عن الرقابة الخارجية المتزايدة على مسار العملية السياسية"، موضحاً أن "هناك أطرافاً تتابع تشكيل الحكومة وتلوح بأدوات الضغط السياسية والمالية، وفي مقدمتها الجانب الأمريكي، الذي يربط تعاونه مع الحكومة المقبلة بطبيعة خياراتها ومسارها العام، إلى جانب إيران التي تراقب بدورها وتعمل على تمكين شخصيات قريبة من توجهاتها لتكون جزءاً من معادلة الحكم المقبلة".
وسادت مخاوف في الأوساط الوظيفية والاقتصادية من انعكاس القرارات الحكومية الأخيرة الخاصة بتقليص الإنفاق وتعظيم الإيرادات على أوضاع الموظفين والفئات الهشة، ولا سيما في ظل اعتماد شريحة واسعة من المجتمع على الرواتب والدعم الحكومي.
بدوره أكد المحلل السياسي محمد التميمي أن "المأزق الحالي لا يكمن فقط في اختيار اسم رئيس الوزراء، بل في شكل العقد السياسي الذي سيحكم العلاقة بين الحكومة المقبلة والمجتمع".
وأضاف التميمي لـ"إرم نيوز" أن "المرحلة المقبلة ستختبر قدرة النظام السياسي على الانتقال من إدارة الأزمات إلى إدارة التوقعات، فالعراقيون لم يعودوا ينتظرون شعارات كبرى بقدر ما يراقبون قدرة الدولة على ضبط الإنفاق، وحماية الوظائف، وضمان حد أدنى من الاستقرار الاقتصادي".
وأشار التميمي إلى أن "أي حكومة ستتشكل ضمن التوازنات الحالية ستكون مطالبة بالتعامل مع إرث ثقيل من الالتزامات المالية، في ظل اقتصاد ريعي هش؛ ما يجعل هامش المناورة محدوداً، ويضع صناع القرار أمام خيارات صعبة تتطلب وضوحاً في الأولويات أكثر من البحث عن تسويات سياسية مؤقتة".
وتخشى أوساط سياسية ومجتمعية عراقية من أن تقود هذه الأوضاع المركبة، سياسياً واقتصادياً، إلى تصاعد حالة الغضب الشعبي، ولا سيما مع استمرار تعثر تشكيل الحكومة وبقاء آليات الحكم نفسها القائمة على المحاصصة والتوافقات المغلقة، من دون مؤشرات واضحة على تغيير جوهري في بنية إدارة الدولة.
وتتزامن هذه المخاوف مع مقاطعة التيار الصدري للعملية السياسية، وهو ما قد يفاقم الغضب داخل النظام السياسي، ويبقي الشارع ساحة محتملة للتعبير عن الاعتراض، في حال تزايدت الضغوط المعيشية أو تراجعت قدرة الحكومة المقبلة على احتواء الأزمات المتراكمة.