دخلت مفاوضات تشكيل الحكومة العراقية مرحلة أكثر حساسية وتعقيدًا، مع انتقال الخلافات من الغرف المغلقة إلى مستوى رسائل وضغوط متبادلة، وسط تصاعد الدور الأمريكي من جهة، وتمسك الميليشيات المسلحة الحليفة لإيران بدورها كشريك مقرِّر في معادلة الحكم من جهة أخرى، وفق ما أفادت به مصادر سياسية عراقية مطلعة لـ"إرم نيوز".
وتؤكد المصادر أن المشهد لم يعد محصورًا في خلافات حول أسماء المرشحين لرئاسة الوزراء، بل بات مرتبطًا بشكل مباشر بـ"مواصفات الحكومة المقبلة" وحدود مقبوليتها داخليًّا وخارجيًّا، في ظل ربط متزايد بين تشكيل الحكومة وملفات الاستثمار والطاقة وأمن البعثات والمنشآت الحيوية.
رسائل أمريكية تتجاوز التحذير
بحسب مصادر متابعة لملف التشكيل، فإن واشنطن صعّدت في الأيام الأخيرة من لهجتها تجاه بغداد، منتقلة من مستوى التحذير السياسي العام إلى مستوى ربط الاستقرار الاقتصادي وبيئة الاستثمار بمواصفات الحكومة المقبلة. وتوضح المصادر أن هذه الرسائل نُقلت عبر أكثر من قناة دبلوماسية، وترافقت مع إشارات واضحة إلى ملف "حصرية السلاح" وحماية البنية التحتية ومنع الهجمات على المصالح الأجنبية.
وتشير المصادر إلى أن الخطاب الأمريكي لم يعد محصورًا في البيانات العلنية أو تصريحات السفارة، بل دخل طور "الضغط المركّب"، من خلال تذكير غير مباشر بإجراءات اقتصادية محتملة، وتشديد الرقابة على التحويلات المالية، وإيصال رسائل إلى شركاء دوليين حول حساسية التعامل مع أي حكومة يُنظر إليها بوصفها امتدادًا للميليشيات المتحالفة مع إيران أو غطاء لها.
وتضيف المصادر أن دوائر سياسية في بغداد تلقت إشارات تفيد بأن أي رئيس وزراء يُصنّف عمليًّا ضمن "مظلة الفصائل" سيواجه صعوبات حقيقية في نيل دعم سياسي واقتصادي دولي، وهو ما رفع كلفة الخيارات المطروحة أمام "الإطار التنسيقي".
من حسم الأسماء إلى جدل المواصفات
في المقابل، تكشف مصادر من داخل "الإطار التنسيقي" أن قوى الإطار انتقلت فعليًّا من مرحلة البحث في الأسماء إلى مرحلة النقاش حول "المواصفات"، في محاولة لتجنب تفجير خلافات داخلية بين أجنحته. وبحسب هذه المصادر، يجري التداول في اسم رئيس وزراء "غير تصادمي"، قادر على فتح قنوات مع الغرب والخليج، من دون أن يُفهم داخليًّا بوصفه مشروع مواجهة مع الفصائل أو انقلابًا على التوازنات القائمة.
غير أن هذا التوجه اصطدم سريعًا، وفق المصادر، بسقف الشروط التي تضعها الفصائل المسلحة، وعلى رأسها ضمانات تتعلق بمستقبل "الحشد الشعبي"، وطبيعة العلاقة مع طهران، وقواعد الاشتباك مع الوجود الأمريكي، إضافة إلى ملفات الاقتصاد غير الرسمي وشبكات النفوذ داخل مؤسسات الدولة.
وتؤكد المصادر أن أي شخصية تُطرح بوصفها "وسطية" لا يمكن أن تمرّ من دون تفاهمات مسبقة حول هذه الملفات، وهو ما أعاد الاجتماعات إلى مربع حصر المرشحين والبحث عن اسم يمكن تسويقه خارجيًّا بصفته "تكنوقراطيًّا سياسيًّا"، مع تقديم تطمينات داخلية بعدم الذهاب نحو نزع سلاح أو إعادة هيكلة قسرية.
اقتراب الحسم وضيق الوقت
وتشير معلومات حصل عليها "إرم نيوز" إلى أن "الإطار التنسيقي" يتجه لحسم خياره بعد مصادقة القضاء على نتائج الانتخابات، في ظل قناعة متزايدة بأن خيار التأجيل لم يعد مريحًا، وأن نافذة الوقت تضيق أمام المناورة.
وتتحدث تقارير محلية عن تداول أسماء محددة بوصفها الأوفر حظًّا داخل الإطار، مع بروز سيناريوهات تجمع بين الإبقاء على رئيس الحكومة الحالي أو الدفع ببديل ذي خلفية أمنية أو إدارية قريب من المنظومة الحاكمة، في إطار ما تصفه المصادر بمحاولة "تدوير الزوايا" بدلًا من إحداث تغيير جوهري في قواعد اللعبة السياسية.
فيتو وقائي من الفصائل
في موازاة ذلك، تنقل مصادر سياسية عراقية أن الميليشيات المسلحة الحليفة لطهران لا تنظر إلى مسألة "التعامل مع المجتمع الدولي" بوصفها إشكالية بحد ذاتها، بل ترى أن الخطر يكمن في أن حكومة تُصنّف دوليًّا كمقبولة قد تفتح الباب تدريجيًّا أمام ضبط السلاح خارج الدولة، وتحجيم الدور الإقليمي لهذه الميليشيات، وإعادة تعريف علاقة بغداد بطهران ضمن سقف مختلف.
وتصف المصادر هذا السلوك بأنه "فيتو وقائي"، إذ لا تسعى الفصائل إلى إسقاط النظام السياسي أو تعطيل الدولة بالكامل، لكنها تريد ضمان أن رئيس الوزراء المقبل لن يكون مدخلًا لمسار تغييري يمس نفوذها وموقعها داخل الدولة.
مسار هش بين الخارج والداخل
وبحسب تقديرات سياسية، فإن السيناريو الأرجح يتمثل في ولادة حكومة تقوم على "إدارة التوتر لا تفجيره"، عبر تقديم صيغة تهدئة للخارج، مقابل ترتيبات داخلية تطمئن الفصائل بأن ملفاتها لن تتحول إلى مشروع مواجهة.
لكن المصادر تحذّر من أن هذا المسار ينطوي على مخاطرة مزدوجة؛ فحكومة لا تقنع الخارج بما يكفي قد تدخل البلاد في دائرة ضغوط اقتصادية أشد، في حين أن حكومة تقدم خطوات ملموسة لإرضاء المجتمع الدولي قد تواجه تعطيلًا سياسيًّا وأمنيًّا من داخل مؤسسات الدولة نفسها.
وتخلُص المصادر إلى أن "الإطار التنسيقي" لا يختبر فقط اختيار اسم رئيس الوزراء، بل يختبر قدرته على إنتاج تسوية دقيقة بين مطلب دولي متصاعد بدولة واحدة وسلاح واحد، وبين واقع عراقي ترسخت فيه الفصائل كقوة سياسية وأمنية يصعب تجاوزها.
وفي هذا الاشتباك المعقّد، تبدو "الحكومة المقبولة دوليًّا" أول الضحايا المحتملين، ما لم تُصَغ تسوية توازن بين مطالب العواصم الخارجية وحسابات الداخل العراقي، من دون أن تُقرأ في بغداد بوصفها كسرًا لمحور كامل.