تفتح نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة صفحة جديدة من التوازنات داخل البيت الشيعي، بعدما خاضت القوى السياسية السباق بمعزل عن التيار الصدري الذي اختار المقاطعة الكاملة، ورغم غيابه عن صناديق الاقتراع، عاد حضور التيار ليبرز في قلب النقاشات الجارية حول شكل المرحلة المقبلة وترتيبات الحكومة الجديدة.
وبرغم تثبيت مقتدى الصدر قرار المقاطعة قبل الاقتراع، تؤكد المعطيات الحالية أن التيار ما زال يشكل محورا مؤثرا سواء عبر خطابه العلني أو عبر تأثيره الشعبي المتراكم داخل مدن الجنوب وحيزها الاجتماعي الواسع.
ومنذ سنوات يؤسس الصدر عبر خطابه الحاد لمرحلة جديدة من التموضع، ويشدّد في بياناته على الابتعاد عن "المسار السلطوي" والتمسّك بخط الإصلاح الشعبي، فيما دعا أنصاره إلى عدم تعطيل يوم الاقتراع، ليؤكد، في الوقت نفسه، أنه لا يسعى إلى السلطة ولا إلى اقتسامها، وهو ما عزز فكرة أن الاعتزال الانتخابي لم يكن انسحابا كاملا، بل انتقال إلى دور رقابي اجتماعي وسياسي خارج المؤسسات.
وبحسب وسائل إعلام محلية عراقية، فإن قوى الإطار التنسيقي تحاول، اختبار إمكانية فتح قناة حوار مع الصدر، وسط إدراك متزايد أن أي حكومة جديدة تحتاج إلى بيئة مستقرة لا يمكن فصلها عن المزاج الصدري.
غير أن هذه المحاولات لم تحقق تقدما، بعدما أعاد مكتب الصدر التأكيد على رفض أي لقاءات سياسية خلال المرحلة الحالية؛ ما دفع الإطار إلى حسم خياراته باتجاه تشكيل الحكومة من دون مشاركة التيار، وفق ما نقلت مواقع إخبارية عراقية.
بدوره قال الباحث في الشأن السياسي محمد نعناع، إن "التيار الصدري يبتعد تدريجيا عن كل أشكال العودة السريعة إلى العملية السياسية، سواء عبر الانتخابات أو عبر التفاهمات مع القوى الفائزة".
وأضاف نعناع في حديث لـ"إرم نيوز"، أن "الصدر يتحرك في مسارين واضحين؛ الأول خطابي يسعى إلى إعادة تكريس صورة التيار كقوة إصلاحية خارج منظومة الحكم، والثاني مسار شعبي من المرجح أن يتصاعد خلال الفترة المقبلة عبر حراك تضامني مع شرائح اجتماعية تواجه ضغوطا اقتصادية وخدمية كبيرة".
وبيّن أن "هذه المسارات يمكن أن تشكّل أرضية لتحرك أكبر في المستقبل، قد يكون عبر انتخابات جديدة أو عبر موجة احتجاجات واسعة تعيد صياغة المشهد".
وتؤشر التصريحات المتداولة من داخل التيار على أن المقاطعة لم تُنه التفاعل التنظيمي داخله، بل أعادت ترتيب الأدوار، فمنذ انسحاب نواب الكتلة الصدرية من البرلمان عام 2022 وخروج المئات من العاملين في مكاتبهم، بدا التيار وكأنه يتعمد تقليل الحضور المؤسسي لصالح حضور مجتمعي يعتمد على الخطاب الديني والأنشطة الخدمية والتواصل الشعبي.
وتظهر المعطيات من مدن الجنوب والوسط أن تأثير التيار في البيئة الاجتماعية ما زال حاضرا، خصوصا في النجف وذي قار والعمارة، حيث تحظى المؤسسات المرتبطة بالتيار بقاعدة ثابتة من الأنصار.
وتؤكد هذه المؤشرات أن غياب التيار عن الانتخابات لم يؤد إلى تراجع كبير في حضوره الشعبي، بل أعاد تركيزه على مساحات العمل الأهلي والديني، في مقابل اندفاع قوى سياسية أخرى لملء الفراغ الخدمي الذي كان يشغله.
من جانبه قال عضو في التيار الصدري لـ"إرم نيوز" إن "الأجواء داخل التيار تشهد مناقشات واضحة تتعلق بالمرحلة المقبلة، خصوصا ما يرتبط بملف الإصلاح وزيادة الضغط الشعبي لإحداث تغيير في الملفات الخدمية والاقتصادية وملف مكافحة الفساد وإنهاء المحاصصة والطائفية".
وأوضح عضو التيار الذي طلب عدم نشر اسمه أن "العديد من المسارات مطروحة، من بينها تعزيز النشاط المجتمعي وتنظيم فعاليات تضامنية، إلى جانب متابعة سير الحكومة الجديدة وطبيعة التفاهمات بين القوى السياسية".
وأشار إلى أن "هذه التحركات لا تهدف للعودة السياسية المباشرة، وإنما لترسيخ موقع التيار كقوة رقابية شعبية قادرة على التأثير في المشهد عند الحاجة".
ويشير مراقبون إلى أن المرحلة المقبلة قد تشهد اشتداد التنافس داخل المناطق ذات الحضور الصدري التقليدي، مع سعي القوى الفائزة إلى تعزيز وجودها هناك عبر الخدمات والبرامج المحلية؛ ما سيدفع التيار نحو التركيز على خطابه الإصلاحي وإعادة إنتاج دوره خارج المؤسسات.