تحتل سوريا المرتبة الثالثة في قائمة البلدان الأكثر تعرضاً للعقوبات الأمريكية، ولا يسبقها في هذه القائمة سوى روسيا وإيران، وتتقدم حتى على كوريا الشمالية وبيلاروسيا وميانمار وفنزويلا.
أصدرت الولايات المتحدة أولى العقوبات بحق سوريا في ديسمبر/ كانون الأول 1979 مع تصنيفها في قائمة الدول الراعية للإرهاب.
ومع نهاية 2024، قارب عدد العقوبات الأمريكية على سوريا 3,000 عقوبة، التي خنقت الاقتصاد السوري، وأسهمت بعزل نظام عائلة الأسد دولياً.
العدد الكبير والطيف الواسع لهذه العقوبات سيقيد أي حكومة جديدة لسوريا، والموقف الأمريكي الرسمي إزاء مستقبل هذه العقوبات لا يزال مشوباً بالكثير من الغموض.
في 22 ديسمبر/ كانون الأول 2024، جددت إدارة الرئيس جو بايدن عقوبات "قيصر" – الأكثر إضراراً بالاقتصاد السوري – حتى نهاية 2029.
ثم عادت إدارة بايدن في 6 يناير/ كانون الثاني الجاري، وأصدرت إعفاءً لمدة ستة أشهر يسمح بالتعامل مع سوريا بهدف تسهيل الأنشطة والمساعدات الإنسانية الدولية، بما في ذلك تصدير حوامل الطاقة والتبرع بها، ولكن بشرط عدم التعامل مع الهيئات العسكرية في سوريا.
المواقف المنقولة عن المسؤولين الأمريكيين في لقاءاتهم، في دمشق وواشنطن، مع المسؤولين والنشطاء السوريين، تشير إلى أن القرار النهائي حول ملف العقوبات الأمريكية سيترك لإدارة دونالد ترامب المقبلة.
والتصريحات القليلة لترامب حول تطورات الملف السوري – خصوصاً في 16 ديسمبر/ كانون الأول و7 يناير/كانون الثاني – تشير إلى أنه لم يحسم موقفه بعد إزاء حكام سوريا الجدد. إلا أن ملف العقوبات الأمريكية يبقى أكثر تعقيداً من أن يختصر بالتفضيل الشخصي لدونالد ترامب أو جو بايدن.
والتجارب التاريخية تقول إن الخروج من تحت مظلة العقوبات الأمريكية عادةً ما يكون دونه خرط القتاد. وأقرب الأمثلة التي يمكن مقارنتها مع سوريا هي العقوبات التي كانت مفروضة على السودان.
فرضت الولايات المتحدة أولى عقوباتها على السودان في 1993 عندما أضافته لقائمة الدول الراعية للإرهاب، وذلك بسبب استضافة نظام عمر البشير لزعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن.
وخلال السنوات التالية، أصدرت الولايات المتحدة المزيد من العقوبات الاقتصادية والسياسية بحق السودان.
حكم عمر البشير انتهى فجر 11 أبريل/نيسان 2019، وانطلقت عملية انتقالية تحظى بدعم دولي واسع، خصوصاً من دول الخليج العربي والاتحاد الأوروبي.
والانتقال السياسي والدعم الدولي سمح للسودان بمناقشة ملف العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على السودان في عهد البشير، خصوصاً تلك المرتبطة بوجود السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب. إلا أن الولايات المتحدة لم ترفع اسم السودان من تلك القائمة إلا في ديسمبر/كانون الأول 2020 – أي بعد 20 شهراً على سقوط البشير.
إزالة اسم السودان من تلك القائمة لم يكن مجرد مسألة وقت وانتظار، بل تطلب خطوات مهمة من جانب السودان. البداية كانت إظهار حصول تقدم كبير في مسار العملية السياسية الانتقالية، بما في ذلك إصدار الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية، في أغسطس/ آب 2019.
وكذلك توقيع اتفاق "جوبا" للسلام، في 31 أغسطس/ آب 2020، بين الحكومة السودانية الانتقالية، من جانب، وكل من "الجبهة الثورية السودانية" و"حركة تحرير السودان"، مما وضع نهاية لعقود من الحروب بين الحكومة المركزية وبعض حركات المعارضة المسلحة. توقيع هذا الاتفاق أعقبه أيضاً إصدار وثيقة دستورية معدلة، في أكتوبر/ تشرين الأول 2020.
كما اضطر السودان للتعامل المباشر مع الدعاوى القضائية المرفوعة ضده، منذ قرابة العقدين من الزمن، في المحاكم الأمريكية لدوره في عمليات إرهابية استهدفت مواطنين أمريكيين (تفجير السفارتين الأمريكيتين في 1998، في كل من نيروبي ودار السلام، وكذلك الهجوم على المدمرة الأمريكية USS Cole في 2000).
أغلقت هذه الدعاوى في أواخر مارس/ آذار 2021، بعدما دفع السودان تسوية مالية تبلغ 335 مليون دولار. كما اعتمد السودان على تحسين علاقاته الدولية، بما في ذلك تطبيع العلاقات مع إسرائيل في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2020.
التفاصيل السابقة، والدعم الدبلوماسي الكبير من الدول العربية وإسرائيل وألمانيا والنرويج وبريطانيا ومنظمة الاتحاد الأفريقي للتوسط لدى الولايات المتحدة، أدى إلى رفع السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب في 14 ديسمبر/كانون الأول 2020.
ولكن، بالرغم من هذه الخطوات المهمة من جانب السودان، لا يزال هناك العديد من العقوبات الأمريكية التي لم ترفع عن السودان، أهمها تلك المتعلقة بسجل حقوق الإنسان في السودان. ولهذا لم يحصل الاقتصاد السوداني على الفرصة التي يحتاجها لبدء التعافي الواسع، وتحقيق الاستفادة الكاملة من المساعدات الدولية.
حالة سوريا هي أكثر تعقيداً بأشواط من حالة السودان. فالعقوبات الأمريكية أقدم على سوريا منها بالمقارنة مع السودان.
فالقائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب لم تظهر على أرض الواقع إلا مع منح سوريا هذا التصنيف في 26 ديسمبر/كانون الأول 1979.
الإدارات الأمريكية التالية أصدرت بدورها المزيد من العقوبات المختلفة. وفي ديسمبر/ كانون الأول 2003، أقر الكونغرس الأمريكي أول قانون كامل مخصص لمعاقبة سوريا - باسم "قانون محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية" – وذلك لمعاقبة سوريا بسبب تدخلاتها في لبنان، ولتطويرها أسلحة دمار شامل، ولتهريبها مواد محظورة للفصائل التي كانت تحارب القوات الأمريكية في العراق.
إلا أن القسم الأخطر من العقوبات الأمريكية فرض على سوريا منذ 2011، خصوصاً ما يعرف بقانون "قيصر" الذي دخل حيز التنفيذ أول مرة في ديسمبر/كانون الأول 2019.
الدفعات الجديدة من العقوبات استهدفت كل الشخصيات البارزة في النظام السابق، وأهم مؤسساته العسكرية والاقتصادية والمالية. واستهدفت حتى بعض أهم مؤسسات الدولة السورية – مثل المصرف المركزي.
العقوبات الأمريكية خلال الحرب استهدفت كذلك بعض جماعات المعارضة المسلحة التي وصلت للحكم الآن. والتعليق المؤقت للعقوبات الذي أصدرته الإدارة الأمريكية، في 6 يناير/كانون الثاني، شدد على أن التعامل لا يزال محظوراً مع "هيئة تحرير الشام" التي يقودها أحمد الشرع، رئيس الإدارة السورية الجديدة.
وبينما يمكن المجادلة بأن العقوبات التي صدرت على سوريا بسبب ممارسات النظام السابق، منذ انطلاق الحرب في 2011، يجب أن ترفع لتحقق أهدافها بإسقاط نظام الأسد، إلا أن هذا يترك الكثير من العقوبات الخطيرة والتي يصعب طي فصولها. فرفع اسم سوريا من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب يتطلب – كما حصل مع السودان – أن تصدر الحكومة الأمريكية تقريراً مفصلاً موجهاً للكونغرس توثق فيه أن سوريا لم تعد بلداً يمارس الإرهاب، ولا يخطط له، ولا يموله، ولا يرعاه، ولا يوفر الملاذ الآمن لشخصيات إرهابية، ولا يقدم الدعم اللوجستي أو المالي لأي تنظيم موجود في قوائم التنظيمات الإرهابية الأمريكية (بما في ذلك حركة "حماس" مثلاً).
هذا التقرير سيخضع للتدقيق من جانب الكونغرس الذي يمتلك 45 يوماً للموافقة على ما جاء فيه أو رفضه.
التحقق من مثل هذه التفاصيل لم يكن بالمهمة السهلة أصلاً، والآن أصبح من شبه المستحيل، وذلك بعد أن أصبح بين حكام سوريا الجدد شخصيات موجودة في القوائم الأمريكية للإرهابيين.
كما يتوجب على الحكومة السورية الجديدة التوصل لتسوية للدعاوى القضائية التي رفعها مواطنون أمريكيون ضد سوريا في الولايات المتحدة لتضررهم من أنشطة إرهابية تتهم سوريا بالتورط بها.
بعض هذه الدعاوى قديم، وتعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، ورفعها أمريكيون من ضحايا العمليات الإرهابية في لبنان، وأحدثها رفعها بعض المتضررين من عائلات ضحايا هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، والذين اتهموا سوريا بدعم حركة "حماس".
من تجربة الحكومة السودانية الانتقالية، العبرة هي أن الطريق الأسرع للخروج من العقوبات الأمريكية يتطلب بدايةً إطلاق عملية سياسية انتقالية جدية في الداخل، وبشكل مقنع للقوى الفاعلة في الإقليم والعالم.
ثم العمل على حشد أكبر طيف ممكن من الدعم السياسي والدبلوماسي الدولي، وأنشطة اللوبي في العاصمة الأمريكية، لكي يصبح من الممكن تجاوز العقوبات الأمريكية وإطلاق عمليات إعادة إعمار سوريا.
الاختلاف الحالي بين التجربتين السورية والسودانية هو أن إسرائيل اليوم تتخذ مواقف علنية معادية للإدارة الجديدة في سوريا، بينما كانت من مناصري رفع العقوبات عن السودان.
هذا الموقف الإسرائيلي هو من بين أهم العوائق التي تواجهها سوريا للخروج من مظلة العقوبات الأمريكية، خصوصاً لكون الإدارة السورية الجديدة لا تمتلك أي تصورات واقعية للتعامل مع إسرائيل.