تواجه ميليشيا "حزب الله" اللبنانية ضغوطًا غير مسبوقة، في وقت يسعى فيه البلد المنهك إلى استعادة سيادته والخروج من أزماته الاقتصادية والسياسية المتراكمة.
وحتى وقت قريب، كانت الضواحي الجنوبية للعاصمة بيروت تُعد رمزًا مرئيًا لنفوذ الحزب، حيث امتلأت الشوارع بصور قادته وحلفائه الإيرانيين.
إلا أن هذه المظاهر بدأت تتغير تدريجيًا، خصوصًا مع حلول يونيو/حزيران الماضي، حين استُبدلت العديد من تلك الصور بإعلانات تجارية ورسائل وطنية تحت شعار "عصر جديد للبنان"، ضمن حملة يقودها رئيس الوزراء نواف سلام.
ووفق تقرير بثته شبكة "NBC" الأمريكية، يعكس هذا التحول في المشهد العام تغيّرات أعمق، إذ يُدفع بحزب الله إلى الهامش سياسيًا واقتصاديًا، خاصة مع دخول موسم سياحي صيفي حاسم.
وقال جوزيف ضاهر، مؤلف كتاب "الاقتصاد السياسي لحزب الله"، إن الحزب "يواجه أكبر مأزق منذ تأسيسه"، مشيرًا إلى أن الضربات الإسرائيلية الأخيرة ألحقت أضرارًا كبيرة ببنيته التحتية ومصادر تمويله، خصوصًا في المناطق الشيعية.
ورغم خسائره، لا يزال الحزب يحتفظ بقوة برلمانية تصل إلى 62 مقعدًا من أصل 128، بحسب نتائج انتخابات 2022، التي شهدت أكبر تراجع له في عدد المقاعد منذ دخوله المعترك السياسي.
وعلى الرغم من استمرار الدعم الإيراني، تزداد عزلة الحزب داخليًا وخارجيًا، وتتقلص قدرته على العمل بحرية كما في السابق.
على مدار سنوات، أنشأ حزب الله شبكة مالية موازية للنظام الرسمي في لبنان، بدعم إيراني مباشر وشراكات تجارية في الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأوروبا، تدرّ عليه مليارات الدولارات سنويًا.
وفي أعقاب الانهيار المصرفي الذي شهده لبنان عام 2019، واصل الحزب الاعتماد على اقتصاد "نقدي" وأسواق سوداء لتأمين السيولة.
وبحسب ضاهر، فإن أكثر من 60% من الاقتصاد اللبناني يعتمد على النقد، وهو ما يمنح الحزب هامشًا واسعًا للتحرك خارج رقابة الدولة.
وأضاف أن "جزءًا كبيرًا من هذا النقد يتم تهريبه إلى لبنان من قبل حزب الله، لتمويل عملياته ودفع رواتب عناصره ودعم قاعدته الشعبية، إلى جانب مصادر تمويل أخرى مشروعة وغير مشروعة".
ولكن الضغوط الأمريكية على الحكومة اللبنانية، خصوصًا في عهد الرئيس دونالد ترامب، دفعت نحو تضييق الخناق على أنشطة الحزب المالية.
أصدر مصرف لبنان، في خطوة بارزة، توجيهات تمنع المؤسسات المالية من التعامل مع "القرض الحسن"، الذراع الاقتصادية الأبرز لحزب الله، والتي سبق أن استهدفتها إسرائيل في غارات جوية.
وقال ماثيو ليفيت، الباحث في "معهد واشنطن"، إن مصرف لبنان "وجد مخرجًا قانونيًا واضحًا يمنع التعامل مع الجمعية"، مضيفًا: "مهما كانت طبيعتكم، لا يجوز لأي جهة تقديم خدمات لكم. لا يمكنكم التعامل مصرفيًا، وأي جهة تفعل ذلك تنتهك القانون".
واتخذت السلطات اللبنانية إجراءات إضافية للسيطرة على مطار بيروت، الذي لطالما اعتُبر منطقة نفوذ للحزب، شملت تركيب أنظمة مراقبة، واعتقال مهربين، وطرد موظفين مرتبطين بالحزب.
كما كشفت تقارير عن اعتراض تحويلات مالية نقدية عبر المطار والحدود، بلغت قيمتها ملايين الدولارات، في وقت تراجعت فيه قدرة الحزب على استخدام الأراضي السورية كنقطة عبور للتمويل والسلاح؛ بسبب سقوط نظام بشار الأسد.
يرى خبراء أن المرحلة الحالية تمثل فرصة نادرة لتقليص نفوذ الحزب، خاصة مع وجود رئيس جمهورية ورئيس حكومة يعلنان التزامهما باستعادة سيادة الدولة، إلى جانب رغبة واضحة في نيل دعم المجتمع الدولي.
وقال ليفيت، في مقابلة مع "CNBC": "حين تكون إيران تحت ضغط، ولبنان يحاول تقييد قدرة الحزب على العمل كميليشيا مستقلة، فإن لدينا فرصة مهمة".
لكن المهمة ليست سهلة، بحسب المحللين، فالحزب لا يزال يتمتع بقاعدة شعبية قوية، ويوفر خدمات اجتماعية في بيئته الشيعية، ويحتفظ بترسانة عسكرية ضخمة.
ورغم تصاعد الدور الأمريكي، لم تطالب أي جهة علنًا بتفكيك الحزب؛ لكن مبعوث ترامب للمنطقة، توم باراك، كان من بين من دعوا إلى نزع سلاحه، وهو ما رفضه الحزب.
وأوضح ليفيت: "حزب الله لن يتخلى عن سلاحه لمجرد الطلب. المطلوب هو تمكين الدولة اللبنانية من فرض سلطتها، عبر دعم سياسي واقتصادي متكامل".
بحسب المسؤول السابق في وزارة الخزانة الأمريكية، ألكسندر زيردن، فإن تفكيك شبكات الحزب يتطلب استراتيجية مزدوجة، الاستمرار في تفكيك شبكات الحزب المالية عالميًا، مع دعم الاقتصاد اللبناني وتنفيذ الإصلاحات، رغم التراجع في الوجود الدبلوماسي والتنموي الأمريكي.
وأشار إلى أن "الولايات المتحدة ستسعى لحرمان الحزب من عقود إعادة الإعمار في سوريا"، لكنه حذر من أن أدوات التحفيز محدودة في ظل تراجع الحضور الدبلوماسي والإنمائي الأمريكي.
يرى بعض المراقبين أن إحراز تقدم حقيقي يتطلب تحولًا جيوسياسيًا أوسع، يدفع إيران إلى تقليص تدخلها في لبنان.
ويعتقد المحلل السياسي اللبناني، روني شطح، أن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال دبلوماسية استراتيجية.
وقال شطح إن "ما لم يتغير بعد لصالح لبنان هو البُعد الدولي، وأعني بذلك إيجاد طريقة لإقناع إيران بالتخلي عن نفوذها في لبنان، وهو أمر لا يمكن أن يحدث إلا عبر دبلوماسية استراتيجية" وفق تعبيره.
وأضاف: "إذا كانت إدارة ترامب جادة بشأن السلام، وإذا كان ترامب يطمح فعلًا لجائزة نوبل، فلا بد من إيجاد مسار للبنان كي يعود إلى الواجهة، وإيجاد تسوية سلمية ترضي، ولو جزئيًا، شروط إيران".
وحذّر شطح من أن الوقت يوشك على النفاد، قائلًا: "النافذة متاحة الآن، وليس غدًا، لكنها نافذة آخذة في الإغلاق؛ النوايا وحدها لا تكفي، سواء من جانب الإدارة الأمريكية أو القيادة اللبنانية؛ النية دون تنفيذ لن تفي بالغرض في تفكيك قوة حزب الله".