في ظل تصاعد نبرة التهديد الصادرة عن واشنطن وتل أبيب، يقابلها موقف إيراني يرفض تحديد إطار زمني واضح لأي مسار تفاوضي، تتبلور ملامح جديدة للملف النووي الإيراني، تتجاوز حالة "الجمود التكتيكي" نحو طور أكثر التباساً وتعقيداً. طور تتداخل فيه الحسابات السيادية بالمزايدات السياسية، ويتراجع فيه منطق التسوية أمام تصاعد الاشتراطات، وتنامي استراتيجيات التريّث، وتعليق الخيارات دون إغلاقها نهائيًّا.
وفي الوقت الذي أعلن فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن بلاده لن تتردد في "سحق" أي محاولة إيرانية لاستئناف نشاطها النووي، أطلق وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس تصريحات موازية تحدّث فيها عن توجيه "ضربة قاضية" للبرنامج النووي الإيراني، ملوّحًا بإمكانية تكرار العمليات الاستباقية مستقبلًا. وفي مقابل هذا التصعيد المتزايد، جاء الموقف الإيراني عبر المتحدث باسم الخارجية إسماعيل بقائي ليؤكد أن بلاده لا ترى حاليًّا أي مسار تفاوضي قائم، وأن اتخاذ قرار بهذا الشأن مشروط حصرًا بـ"المصلحة الإيرانية".
وهو ما يُضاف إلى سلسلة مؤشرات تُظهر أن محاولات الأوروبيين لإحياء المسار الدبلوماسي لا تزال تصطدم بجدران سياسية متقابلة، سواء بفعل الخطاب التصعيدي الصادر عن واشنطن وتل أبيب، أو بفعل تمسك طهران بمنطق التريّث واشتراط السيادة في تحديد توقيت العودة.
مصدر دبلوماسي أوروبي أفاد لـ"إرم نيوز" بأن العواصم الأوروبية المعنية بالملف النووي الإيراني باتت تنظر إلى مواقف طهران الأخيرة بوصفها أقرب إلى "تكتيك مناور" منها إلى استراتيجية تفاوضية واضحة.
وأضاف المصدر، أن الاتحاد الأوروبي لا يزال يحاول إبقاء قنوات الحوار مفتوحة، لكنه يواجه صعوبة متزايدة في فهم المنطق الزمني والسياسي الذي تعتمده إيران لتبرير تأجيلها المستمر لأي خطوات ملموسة.
وتابع قائلاً: "هناك انطباع متزايد بأن طهران تستخدم ورقة التريّث لرفع سقف التوقعات، دون أن تكون مستعدة فعليًّا لتحمل التزامات تفاوضية جدّية. وهذا يضع الأوروبيين في موقف ضعيف، بين تصعيد أمريكي وضغوط إسرائيلية، ومواقف إيرانية لا تتقاطع حتى الآن مع منطق بناء الثقة".
وأوضح المصدر الأوروبي، أن دوائر القرار في برلين وباريس ولندن باتت تلاحظ اتجاهًا متناميًا لدى إيران إلى تفريغ أي مسار تفاوضي من مضمونه العملي، عبر الاكتفاء بإشارات سياسية عامة، دون الدخول في ترتيبات مؤسسية واضحة. وبيّن أن هذا السلوك، من وجهة النظر الأوروبية، يُقوّض فرص العودة إلى اتفاق فعلي، ويجعل من الصعب جدًّا تسويق أي مسار تفاوضي جديد، في ظل الغموض المتعمَّد الذي تكرسه طهران بشأن نواياها النووية.
وأشار المصدر إلى أن الأوروبيين لا يزالون على قناعة بأن الحل السياسي ممكن، لكنهم باتوا يعتقدون أن هذا الحل لن يكون مشابهاً بأي شكل لما جرى التوصّل إليه عام 2015، بل سيكون إن حدث، نتيجة تفاهمات جزئية، متعددة المسارات، وتُدار عبر وسطاء غير تقليديين.
كما لفت إلى أن بعض العواصم الأوروبية بدأت تفكر جدياً بإعادة تقييم "جدوى الرهان على المفاوضات المباشرة"، والانتقال نحو ما وصفه بـ "إدارة احتواء طويلة الأمد"، بالتنسيق مع واشنطن، على قاعدة تقليص المخاطر بدل حلّها.
اللافت في التصريح الأخير لبقائي (المتحدث باسم الخارجية الإيرانية) لم يكن في رفض التفاوض، بل في الطريقة التي تم بها نفي وجود أي نية لذلك، وخصوصاً حين أشار إلى أن الدول الأوروبية "لا تملك صلاحية تفعيل آلية العقوبات" المستندة إلى القرار 2231، وهو القرار الصادر عن مجلس الأمن عام 2015، والذي صادق على الاتفاق النووي الإيراني ووفّر آلية تتيح إعادة فرض العقوبات تلقائياً (سناب باك) في حال الإخلال بشروط الاتفاق، لكن بشرط أن تكون الدولة المفعّلة من الأطراف الأصلية الموقعة عليه، وهو ما بات موضع نزاع قانوني بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق عام 2018.
هنا، وبحسب حديث الباحث في العلاقات الدولية، صائب رومية لـ"إرم نيوز"، يتضح أن إيران لا تتعامل مع الملف النووي كمسار تفاوضي قائم على الالتزامات المتبادلة، بل تسعى إلى تطويعه قانونياً وسياسياً بما يتماشى مع مصالحها الظرفية.
ويرى رومية أن طهران تعمد إلى إفراغ الاتفاق من مضمونه، من خلال ربط العودة إليه بمفهوم فضفاض للسيادة المطلقة، وإعادة تأويل القرار 2231 خارج السياق الذي أُقر فيه دولياً. وهي بذلك لا تدخل في تفاوض فعلي، وإنما تروّج لفكرة تفاوض على شروط التفاوض ذاته، ما يعكس سلوكاً يراوح بين التهرب والمراوغة.
من جهة أخرى، فإن تصريحات ترامب الأخيرة، تعكس برأي رومية استمرار التوظيف السياسي للملف النووي ضمن استراتيجية خارجية تستند إلى ما يسمّيه البيت الأبيض بـ "الردع المطلق". فالتهديد العلني بـ"تكرار الضربات"، ورفض أي إمكانية لعودة إيران إلى تطوير منشآتها، يعكس منطقاً أوسع لدى إدارة ترامب يتمثل بإلغاء المسار التفاوضي بشكله السابق، وتقديم بدائل تقوم على الضغط المباشر.
وأضاف قائلاً: "لكن لا يبدو أن هذه السياسة تحمل مؤشرات على توجه أمريكي نحو أي تصعيد عسكري وشيك، بقدر ما توظَّف كأداة ضغط سياسي. فالتناقض بين نبرة التهديد وبين غياب أي تحرك ملموس لإعادة ترتيب آليات التفاوض، يطرح تساؤلاً جوهرياً، هل تنوي واشنطن فعلاً إعادة فتح الملف، أم أنها تعمل على تجميده ضمن معادلة ردع طويلة الأمد تُبقي إيران تحت السيطرة دون الانخراط في مواجهة شاملة؟".
في السياق ذاته، وافقت إيران على استقبال وفد فني من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بهدف مناقشة ما وصفته بـ "آلية جديدة" للعلاقة الثنائية، دون أن تسمح بإجراء عمليات تفتيش ميدانية. ووفق ما أوضحه المحلل السياسي المختص في الشؤون الدولية، جاسم أمين، لـ"إرم نيوز"، فإن هذه الخطوة لا تعكس انفتاحاً حقيقياً على التعاون، بقدر ما تعكس محاولة إيرانية لإعادة ضبط شروط العلاقة مع الوكالة، بما يُفرغ دورها الرقابي من مضمونه العملي.
وأضاف أن طهران تسعى إلى تحويل التفتيش من مهمة فنية مستقلة إلى عملية تفاوضية مشروطة، تُدار تحت سقف سياسي وليس تقنيًّا؛ ما يثير شكوكاً واسعة بشأن نواياها الحقيقية في الالتزام بقواعد الشفافية الدولية.
ويعتبر أمين أن هذا النهج يندرج ضمن سعي طهران للالتفاف على الضوابط المؤسسية للرقابة الدولية، عبر الاستفادة من الانقسام داخل مجلس الأمن، ومن ضعف القدرة الغربية على فرض آليات تنفيذية حازمة. وهو ما يجعل التعاون مع الوكالة، حتى في حدوده الدنيا، موضع مساومة دائمة، لا التزاماً نابعاً من مسؤولية قانونية واضحة.
في الخلفية، تبقى إسرائيل حاضرة كعامل ضغط معنوي وسياسي، من خلال تصريحات وزير دفاعها يسرائيل كاتس، الذي لوّح باحتمال القيام بعمل عسكري مفاجئ جديد ضد إيران. غير أن هذه التصريحات، ورغم حدّتها، قد لا ترتقي إلى إعلان نية واضحة للقيام بعمل عسكري مباشر في المدى المنظور، وفق رأي أمين.
وختم قائلاً: "تُفهم هذه التصريحات على أنها امتداد لسياسة الردع الرمزي، التي تهدف إلى منع إيران من التحرك بحرية في فضائها النووي، دون الدخول في مغامرة مفتوحة. فإسرائيل، رغم تصاعد خطابها، لا تزال مقيدة باعتبارات التنسيق مع الولايات المتحدة، وحسابات الاستقرار الإقليمي".
في ضوء التفاعلات الراهنة، يبدو أن الملف النووي الإيراني دخل مرحلة إدارة مشروطة أكثر من كونه على طريق تسوية فعلية أو مواجهة شاملة. الولايات المتحدة، بقيادة إدارة ترامب، تعيد إنتاج خطاب الضغط الأقصى بصيغته التهديدية، لكنها لم تبلور بعد أدوات تنفيذية واضحة تسمح بتحويل هذا الخطاب إلى سياسة ميدانية متماسكة.
إيران، من جهتها، لا تطرح بديلاً تفاوضياً واقعياً، بل تكتفي بتعليق الانخراط، وربطه بمنطق المصلحة الظرفية، في إطار لا يُفضي إلى وضوح نوايا أو التزامات معلنة.
أما أوروبا، العالقة بين تصعيد حلفائها وتلكؤ طهران، فتبدو مترددة في خياراتها، وتُعيد النظر في فاعلية دورها الوسيط بعدما تآكلت الثقة في جدوى الرهان على استئناف المسار التقليدي، أما إسرائيل، فتُبقي على سياسة الردع الرمزي فاعلة، من خلال التلويح الدائم بإمكانية التحرك، لكنها تظل محكومة باعتبارات التنسيق مع واشنطن، ومقيدة بخيارات استراتيجية لا تمنحها هامش المناورة الكامل.