رأى خبراء سياسيون فرنسيون أن مشروع الحكم الذاتي في كورسيكا قد يتحول من خطوة إصلاحية إلى مغامرة دستورية محفوفة بالمخاطر، إذا استمر التجاهل الرسمي للبُعد الاجتماعي العميق للأزمة.
وحذّر الخبراء من تداعيات الصيغة المقترحة للحكم الذاتي من قبل الحكومة الفرنسية، مشيرين إلى أنه، رغم شرعية المطالب الثقافية واللغوية، فإن عدم موازنة المشروع بمقاربات اقتصادية وعدالة اجتماعية شاملة قد يؤدي إلى انزلاق خطير نحو نزعة جهوية انفصالية.
وتساءلت صحيفة "ليمانيتي" الفرنسية عمّا إذا كان الوضع القانوني الجديد لكورسيكا سيكون مقدمة لإصلاح دستوري قد يهدد وحدة الجمهورية الفرنسية، مؤكدة أن الاعتراف بالتنوع الثقافي والسعي إلى لا مركزية حقيقية تستجيب لاحتياجات جزيرة شهدت موجات عنف وأزمات متكررة، يتطلب مبادرة جمهورية مسؤولة، في حين أن المسار الذي اختارته الحكومة يبدو بعيدًا عن هذا التوجه.
وحذّر بنجامين موريل، أستاذ القانون العام والباحث في مركز "CERSA" بجامعة باريس 2 بانتيون-آساس، في تصريح لـ"إرم نيوز"، من النزعة الرمزية الزائدة التي تطبع مشروع الحكم الذاتي، موضحًا أن التعريف المقترح للكورسيكيين يحمل دلالات ثقافية قابلة للتسييس والانفصال.
وينص أحد بنود مشروع القانون الدستوري على تعريف قانوني للكورسيكيين بأنهم "جماعة تاريخية، لغوية، ثقافية، طورت ارتباطاً خاصاً بأرضها".
وقد أثار هذا التعريف قلق مجلس الدولة الفرنسي، الذي اقترح استبدال كلمة "جماعة" بكلمة "سكان"، وحذف عبارة "ارتباط خاص"، لما تحمله من شحنة رمزية مثيرة للجدل.
كما ينص المشروع على منح سلطة تشريعية للإقليم، دون توضيح العلاقة القانونية بين القوانين المحلية والوطنية، ما يفتح الباب أمام ازدواجية قانونية غامضة.
وتساءل الخبراء: من في الجمهورية الفرنسية لا يحمل "ارتباطًا خاصًا" بأرضه؟ أليس لدى البريتون، والبروفنساليين، والألزاسيين، والكاتالونيين، شعور مماثل؟ ألا يمكن لكل منهم المطالبة بمعاملة مماثلة؟، مشيرين إلى أن هذه الصياغة قد تفتح الباب أمام مطالب انفصالية جديدة تستند إلى هويات جهوية قائمة.
ويشير الفقيه الدستوري بنجامين موريل إلى أن هذا التعريف "يقوم على سمات ذاتية تستبعد فئات أخرى من السكان"، معتبرًا أن الحكومة تخطئ مرة أخرى في تحديد أولوياتها بشأن كورسيكا.
وأكد أن التركيز يجب ألا يكون فقط على حماية اللغة أو الاعتراف بالطابع الجزيري، بل على معالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية، إذ تُعد كورسيكا من أفقر مناطق فرنسا القارية، وفق المعهد الوطني للإحصاء (Insee).
ورأى موريل أن المشروع يشكل خروجًا عن الروح الجمهورية الفرنسية، محذرًا من أن ترسيخ مفاهيم مثل "الجماعة التاريخية" أو "الارتباط بالأرض" في النص الدستوري، يخل بتوازن الدولة المركزية ويفتح الباب أمام اعتراف رسمي بالهويات الفرعية، على حساب المصلحة الوطنية.
واعتبر أن المشروع قد يضعف بنية القانون الجمهوري إذا لم يُضبط بمحددات واضحة، خصوصًا فيما يتعلق بتوزيع السلطة التشريعية، حيث إن غياب الوضوح في تسلسل القوانين بين المحلي والوطني قد يؤدي إلى تناقضات دستورية تهدد وحدة النظام القانوني الفرنسي.
وشدد موريل على ضرورة فهم القضية الكورسيكية في إطار العدالة الإقليمية والتنمية المحلية، وليس عبر عدسة ثقافية إقصائية تُكرّس الفوارق وتُغذي مطالب مماثلة في أقاليم أخرى. كما حذر من أن الاستجابة الرمزية من الدولة قد تعمّق الانقسامات بدل أن تعالجها.
من جانبه، قال ميشيل ستيفاني، القيادي في الحزب الشيوعي الفرنسي: "منذ أربعين سنة، كل عقد شهد تعديلًا في الوضع القانوني للجزيرة، من دون أن ينعكس ذلك إيجابيًا على الحالة الاجتماعية، بل على العكس... ربما على الحكومة أن تبدأ من هنا".
بدوره، قال أوليفييه روين، أستاذ العلوم السياسية في معهد الجامعة الأوروبية (EUI) في فلورنسا، لـ"إرم نيوز"، إن التحديات في كورسيكا لا يمكن اختزالها في القضايا اللغوية أو الهوياتية، بل يجب التعامل معها من منطلق اجتماعي واقتصادي بحت.
ورأى أن غياب رؤية تنموية واقعية هو ما يدفع الفئات المهمشة في كورسيكا للتمسك بخطاب الهوية كبديل عن الفشل التنموي، مضيفًا أن معظم محاولات الإصلاح السابقة لم تتطرق بعمق إلى قضايا الفقر، والبطالة، والفرص الاقتصادية.
وأشار روين إلى أن ذلك أدى إلى حالة من الاحتقان المزمن، زاد من حدته فشل الدولة في إدماج كورسيكا ضمن ديناميكية التنمية الوطنية الشاملة.
وختم روين بالدعوة إلى إطلاق خطة اقتصادية خاصة بكورسيكا تعالج الخلل التنموي، بدل الاكتفاء بتنازلات سياسية رمزية، مؤكداً أن الاعتراف بالخصوصية لا يغني عن حماية المساواة الاجتماعية، والتي تُعد جوهر العقد الجمهوري الفرنسي.