في تطور دراماتيكي يعيد رسم المشهد المصرفي في القارة السمراء، تتسارع وتيرة انسحاب البنوك الأوروبية من أسواق أفريقيا، في وقتٍ يبدو فيه أن البنوك الأفريقية – وحتى الأمريكية – تتهيأ لملء الفراغ المتنامي.
على مدى السنوات الماضية، تراجعت البنوك الأوروبية من مشهدٍ كانت تتصدره لعقود، مدفوعة بارتفاع تكاليف التشغيل، وتعقيد اللوائح التنظيمية، وتزايد معدلات القروض المتعثرة، فضلًا عن انخفاض العوائد مقارنةً بمناطق ناشئة أخرى. لكن هذه ليست مجرد عملية انسحاب عادية؛ بل هو تحوّل استراتيجي يحمل في طياته رسائل أعمق حول مستقبل التمويل في القارة.
انطلقت شرارة هذا الانسحاب في عام 2016، حين بدأت باركليز البريطانية ببيع أصولها الأفريقية تدريجيًا، بدءًا من وحدتها في مصر التي استحوذ عليها بنك التجاري وفا بنك المغربي، مرورًا بفرع زيمبابوي، وانتهاءً بتخفيض حصتها في بنك أبسا الجنوب أفريقي إلى الصفر بحلول 2022، لتخسر بذلك وجودها في أكثر من 12 سوقًا أفريقيًا.
وفي خطوة مشابهة، أعلنت ستاندرد تشارترد انسحابها من خمس دول أفريقية في 2022، وباعت عملياتها في تنزانيا في يونيو 2025. ومع ذلك، احتفظت بخدماتها الاستثمارية في أسواق مختارة، مثل أوغندا وزامبيا، ما يعكس تحوّلًا استراتيجيًا نحو القطاعات الأكثر ربحية والنمو.
الوضع لم يختلف كثيرًا بالنسبة للبنوك الفرنسية، حيث انسحبت سوسيتيه جنرال من أكثر من 12 دولة أفريقية، وأغلقت محفظتها الرقمية YUP التي كانت تلقى ترحيبًا عند إطلاقها. كذلك، أغلقت كريدي أغريكول وبي إن بي باريبا عملياتها في المغرب وجنوب أفريقيا، مما أضعف التواجد الفرنسي في الأسواق الأفريقية الناطقة بالفرنسية.
ورغم التراجع الظاهر، لا تشير البيانات إلى أزمة ثقة في أفريقيا بشكل عام أو في قطاعها المصرفي تحديدًا. بل هو تحول يُعزى إلى عوامل داخلية في البنوك الأوروبية: تشديد قواعد بازل 3، وضغوط الامتثال لقوانين مكافحة غسيل الأموال، وذكريات قاسية مثل الغرامة الباهظة التي فُرضت على بي إن بي باريبا عام 2014 بسبب انتهاك العقوبات الدولية.
لكن الفراغ لم يدم طويلًا، إذ تحركت البنوك الأفريقية بسرعة، لتملأ المساحة المتروكة بثقة.
بنك Access النيجيري، على سبيل المثال، استحوذ على عدة فروع لستاندرد تشارترد، فيما ظهرت مجموعات أفريقية جديدة على الساحة مثل Vista الغينية وCoris البوركينابية، مستحوذة على أصول بنوك فرنسية منسحبة.
وفي المغرب، لم تكن البنوك الكبرى المستفيد الوحيد؛ فقد اقتنصت مجموعتا هولماركوم وسهام فرصًا استراتيجية لشراء فروع أجنبية، ما يعكس توزع النفوذ بين اللاعبين التقليديين والجدد.
وبينما تسحب أوروبا استثماراتها، تُفاجئ الولايات المتحدة الجميع باتجاه معاكس: جي بي مورغان يتوسع في أفريقيا، واضعًا نصب عينيه كينيا وساحل العاج كنقاط انطلاق جديدة.
وعلى الرغم من بطء الإجراءات التنظيمية، فإن البنك حصل على تراخيص لفتح مكاتب تمثيلية، ضمن خطة توسع أوسع تستهدف الاستثمار والخدمات المصرفية التجارية.
البنوك الأمريكية الأخرى، مثل مورغان ستانلي وسيتي جروب وبنك أوف أمريكا، ما زالت تعمل بحذر، لكن حضورها ملحوظ في قطاعات كبرى مثل تمويل المشاريع والصفقات الاستثمارية، خاصة في مشاريع البنية التحتية مثل ممر لوبيتو.
لا يمكن إنكار التحديات الحقيقية التي تواجه العمل المصرفي في أفريقيا، من ارتفاع نسب القروض المتعثرة، إلى ضعف البنية التحتية التنظيمية، وغياب السيولة الأجنبية. لكن تجاهل القارة يبدو قصير النظر، خاصة مع تزايد عدد السكان إلى 3.3 مليار نسمة بحلول 2100، وتنامي الطبقة الوسطى، والتوسع السريع في التجارة الإقليمية بفضل منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية (AfCFTA).
ووفقًا لتقديرات شركة ماكينزي، تراجعت الربحية في أكبر خمسة أسواق مصرفية أفريقية بنسبة 2% فقط بين 2016 و2022، وهو انخفاض محدود نسبيًا في ظل الأزمات العالمية.
اللافت أن البنوك الأفريقية، خاصة الرقمية منها، لم تكن فقط بديلًا للبنوك المنسحبة، بل منافسًا يتفوق في بعض القطاعات. فقد نجحت في تقديم حلول مالية مرنة للأفراد والشركات الصغيرة، واستفادت من معرفتها العميقة بالسوق المحلية، وأطلقت منتجات رقمية تفوقت أحيانًا على نظيراتها الغربية.
لكن لا تزال هناك فجوة في الخدمات المصرفية الاستثمارية، حيث كانت البنوك الأوروبية تلعب دورًا رئيسيًا.
ورغم دخول بعض البنوك الأفريقية هذا المجال، إلا أن التمويل عبر الحدود والصفقات الكبرى لا يزال يحتاج إلى خبرات وتجارب قد تكون في جعبة اللاعبين العالميين أكثر من غيرهم.
وبينما تُعيد البنوك الأوروبية تموضعها، وتختبر البنوك الأمريكية المياه الأفريقية بحذر، تبرز البنوك الأفريقية كقوة صاعدة تستغل الفرصة لتوسيع نفوذها. قد لا يحدث التغيير بين ليلة وضحاها، لكنه جارٍ بلا شك.
والسؤال الأهم الآن: هل ستكون أفريقيا مجرد ساحة فارغة تُملأ من جديد، أم ستتحول إلى مركز قرار مالي تقوده مؤسساتها المحلية نحو مستقبل أكثر استقلالية وقوة؟