اعتبر خبراء فرنسيون متخصصون في الدفاع الأوروبي أن قرار الدنمارك باقتناء أسلحة دقيقة بعيدة المدى يمثل تحولًا استراتيجيًا واضحًا يعكس تغيرًا جذريًا في بيئة الأمن الأوروبي بعد الحرب في أوكرانيا، ويرجح أن يُعمّق دور كوبنهاغن في منظومة الردع داخل حلف شمال الأطلسي.
وقال جان-بابتيست جيانجينه فيلمر، مدير معهد البحوث الاستراتيجية بمدرسة الحرب (IRSEM) وخبير في سياسات الأمن القومي والدفاع الأوروبية، في تصريح خاص لـ"إرم نيوز"، إن قرار الدنمارك "يعبر عن نضوج استراتيجي" لدى دول شمال أوروبا، التي أدركت محدودية الاعتماد على منظومة دفاع جوي تقليدية وحدها في مواجهة التهديدات الصاروخية الروسية.
وأضاف فيلمر أن الخطوة تُعد إشارة قوية على التزام كوبنهاغن بتقاسم الأعباء الدفاعية داخل الناتو، لكنها تُبرز أيضًا ضرورة تنسيق استخباراتي وتشغيلي متقدم مع الحلفاء، وإلا فإن الفاعلية التكتيكية لتلك القدرات ستبقى محدودة.
من جهته، قال برونو تيتيريه، نائب مدير مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية الفرنسية والمتخصص في السياسات النووية والردع والدفاع الأوروبي والأطلسي، لـ"إرم نيوز" إن الاقتناء الدنماركي "يعيد رسم بعض معالم الردع الأوروبي" ويسهم في تقليل الاعتماد الكامل على القدرات الأمريكية.
وحذر تيتيريه من مخاطر تصاعد الاستقطاب العسكري، إذا لم تُصاحب هذه القدرات أطرًا قانونية وسياسية واضحة للاستخدام، فضلًا عن الالتزام المشترك بآليات منع التصعيد.
وأكد الباحث الفرنسي أن الانضمام إلى مبادرات أوروبية مثل ELSA قد يكون الطريق الأمثل لضمان شرعية استراتيجية وتوزيع أعباء متوازن بين الدول الأوروبية.
وأعلنت الحكومة الدنماركية، في بيان صدر الأربعاء، نيتها المضي قدمًا في اقتناء "أسلحة دقيقة ذات مدى بعيد" للمرة الأولى، في خطوة تكمّل استثمارًا بقيمة 7.8 مليار يورو لبناء نظام دفاع جوي متعدد الطبقات يعتمد جزئيًا على منظومة SAMP/T الفرنسية-الإيطالية (المنظومة السطح-جو متوسطة المدى/أرضية)، وذلك بحسب مجلة "زون ميليتير" العسكرية الفرنسية.
وأوضحت الحكومة أن الهدف من هذا التوجه لا يقتصر على تقوية الدفاع الجوي للدنمارك، بل يشمل أيضًا "تعزيز ردع حلف الأطلسي" من خلال القدرة على "تحييد أهداف على الأراضي المعادية، مثل منصات إطلاق الصواريخ، قبل أن تشكل تهديدًا".
وقالت رئيسة الوزراء، ميت فريدريكسن، إن بلادها تسعى إلى "قدرة ردع قابلة للتصديق"، مؤكدة أن الدفاع الجوي وحده لم يعد كافيًا، وأن روسيا ستظل تمثل تهديدًا لأمن أوروبا لسنوات قادمة، مشددة على تصميم كوبنهاغن على اختبار وحدة الناتو والدفاع عن حلفائها.
بدوره، أكد رئيس الأركان العامة للدنمارك، الجنرال ميشيل ويغرز هيلدغارد، أن الأسلحة بعيدة المدى "ضرورية لضمان ردع حقيقي، وتمكين الدفاع من اعتراض التهديدات قبل وصولها إلى الأراضي الوطنية".
وأضافت الحكومة الدنماركية أن هذا التوجه جاء أيضًا استجابةً لطلب من الحلف، ويهدف إلى المساهمة في الطموح الأوروبي لبناء قدرة دفاعية مستقلة قادرة على حماية القارة بحلول عام 2030.
ورغم إعلان المضي قدمًا في المشروع، تركت السلطات باب الخيارات مفتوحًا بشأن أنظمة التسليح المحتملة — سواء كانت صواريخ متناهية المدى أم طائرات من دون طيار مسلحة — مع تكليف وكالة المشتريات الدفاعية بمهمة دراسة السوق وتحديد الأنظمة الأنسب.
وتشير بعض المؤشرات إلى أن أحد الحلول المطروحة قد يكون عبر منصة أمريكية لإطلاق صواريخ كروز طراز توماهوك، أو عبر الانضمام إلى المبادرة الأوروبية ELSA (النهج الأوروبي للضربات بعيدة المدى)، التي تجمع عددًا من الدول الأوروبية.
غير أن امتلاك قدرة على الضرب بعيد المدى يتطلب متطلبات استخباراتية كبيرة — من رصد واستهداف وتنسيق — وهي نقطة لم تتطرق إليها وثائق كوبنهاغن التفصيلية حتى الآن، ما يضع تحديًا لوجستيًا واستراتيجيًا في قلب هذا الخيار.
أما روسيا، فقد سبق لها أن نددت بمبادرات دفاعية دنماركية سابقة، مع توجيه تحذيرات مباشرة إلى كوبنهاغن منذ منتصف العقد الماضي بشأن مخاطر انضمامها إلى أنظمة دفاعية قد تُعد استهدافية من وجهة نظر الكرملين.