تفاقمت التوترات بين الحكومة الجورجية والاتحاد الأوروبي؛ ما يُعيد رسم حدود العلاقة بين تبليسي والغرب، وسط اتهامات متبادلة بالتدخل والعزلة السياسية المتزايدة.
ففي 24 سبتمبر 2025، أصدرت بعثات 25 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي إلى جانب المملكة المتحدة بيانًا مشتركًا شديد اللهجة رفضت فيه "الاتهامات المسيئة التي لا أساس لها" التي وجهتها حكومة جورجيا ضد البعثات الأوروبية العاملة في تبليسي.
وجاء في البيان الأوروبي: "نرفض رفضًا قاطعًا الادعاءات الباطلة بشأن دور بعض البعثات الدبلوماسية في جورجيا؛ فنحن لا ندعم أي حزب سياسي، ونحث القادة على تجنب الخطاب الانقسامي والعمل على تهدئة التوترات".
ويرى الخبراء أن هذا البيان شكّل أول تحرّك دبلوماسي جماعي ضد جورجيا منذ استقلالها العام 1992، وهو ما فُسّر بأنه تحذير سياسي صريح لحكومة حزب "الحلم الجورجي" التي تتهم السفراء الأوروبيين بالتدخل في الشؤون الداخلية ودعم قوى "متطرفة" تسعى إلى انقلاب.
وتصاعدت حدّة الخطاب الرسمي مع اقتراب انتخابات البلديات في 4 أكتوبر، في ظل احتجاجات مستمرة منذ أكثر من 300 يوم ضد سياسات الحكومة، أمَّا رئيس الوزراء إيراكلي كوباخيدزه ورئيس البرلمان شالڤا بابواشفيلي كرّرا اتهامات "التدخل الأجنبي" في أكثر من مناسبة؛ ما أدى إلى استدعاء سفيري ألمانيا والمملكة المتحدة في تبليسي، في خطوة اعتُبرت مهينة للعلاقات مع الدول "الصديقة".
من جهته وصف السفير الألماني بيتر فيشر استدعاءه بأنه "إجراء غير مألوف بين دول صديقة"، فيما غادر السفير البريطاني غاريث وورد وزارة الخارجية دون تعليق.
بدورهم قادة المعارضة يرون أن الحكومة تخدم الأجندة الروسية وتدفع البلاد إلى عزلة عن الغرب؛ فقد اعتبرت القيادية في "الحركة الوطنية المتحدة" خاتيا ديكانويدزه، أن استدعاء السفراء "وصمة عار" تتعارض مع المصالح الوطنية، قائلةً إن "التحول في سياسة الحلم الجورجي واضح، وما يجري هو لعبة روسية لتقويض الشراكة الأوروبية".
أمَّا القيادية المعارِضة تيونا أكوبارديا ذهبت أبعد من ذلك، مؤكدةً أن الحكومة تستخدم دعاية معادية للغرب لتبرير فشلها في الإصلاحات المطلوبة من الاتحاد الأوروبي، محذّرة من أن تبليسي "تُسرّع عزلتها السياسية، وتدفع نحو قطيعة محتملة مع أوروبا".
الأزمة الدبلوماسية تُترجم على الأرض؛ فقد استُبعدت وزيرة الخارجية ماكا بوتشوريشفيلي من اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في لوكسمبورغ المقرر في 20 أكتوبر، في حين تمت دعوة وزراء من دول غير أعضاء في الاتحاد من البحر الأسود وآسيا الوسطى، في دلالة رمزية على تدهور موقع جورجيا في المنظور الأوروبي.
كما أن الاتحاد الأوروبي بدوره بدأ يتخذ خطوات تدريجية لعزل الحكومة الجورجية، أبرزها إلغاء نظام الإعفاء من التأشيرات لحاملي الجوازات الدبلوماسية في يناير الماضي، وهو الإجراء الوحيد المتخذ حتى الآن بسبب معارضة هنغاريا وسلوفاكيا لأي عقوبات أوسع.
وفي خضمّ التوترات، بات الاتحاد الأوروبي منقسمًا حول إلغاء نظام السفر دون تأشيرة الذي مُنِح لجورجيا العام 2017؛ فنحو نصف الدول الأعضاء باتت تؤيد سحب الامتياز، متذرعة بعدم التزام تبليسي بالشروط الديمقراطية المطلوبة، لكن المعارضة الجورجية تحذّر من أن "معاقبة الشعب بدل النظام" ستكون هدية مجانية لحزب الحلم الجورجي الذي يسعى لتصوير نفسه كضحية لمؤامرة غربية.
من جانبه أشار الناشط دافيد أفاليشفيللي في مقابلة إلى أن أي قرار أوروبي بإلغاء التأشيرات "سيحبط المواطنين الذين يقاتلون في الشوارع من أجل مستقبل أوروبي، ويمنح السلطة الحاكمة فرصة لتغذية خطابها الشعبوي المعادي للغرب".
وحتى الآن، تتجنّب بروكسل فرض عقوبات مباشرة على حكومة جورجيا بسبب انقسام الموقف الأوروبي، لكن استمرار التصعيد قد يدفع الكتلة إلى إعادة النظر في مساعداتها المالية الضخمة، خاصة أنها ضخّت مئات ملايين اليوروهات في دعم الاقتصاد والديمقراطية الجورجية خلال العقود الماضية.
وبينما تحاول تبليسي الحفاظ على توازنٍ دبلوماسي ظاهري، تتزايد المخاوف الأوروبية من أن جورجيا تنزلق تدريجيًا نحو الفلك الروسي، على حساب مشروعها الأوروبي الذي بدأ يتآكل من الداخل.
ويعني ذلك أن الأزمة بين جورجيا وأوروبا لم تعُد مجرد خلافٍ دبلوماسي، بل أصبحت اختبارًا إستراتيجيًا لمستقبل التوجّه الجورجي بين محورين متناقضين: أوروبا التي تطالب بإصلاحات، وروسيا التي تُغري بالاستقرار، ومع اقتراب الانتخابات البلدية، يبدو أن "الحلم الجورجي" يغامر بكل أوراقه، حتى لو كان الثمن عزلة دولية متزايدة.