في مدينة تيانجين الساحلية، التي يبلغ عدد سكانها 15 مليون نسمة وتبعد 150 كيلومترًا عن بكين، احتشد أكثر من عشرين زعيمًا دوليًّا بين يومي الـ31 من أغسطس والـ1 من سبتمبر بدعوة من الرئيس الصيني شي جين بينغ.
وحملت اللافتات المضيئة باللغات الصينية والروسية والإنجليزية شعارًا موحدًا: "تعاون مربح للجميع!"، لكن خلف هذا الشعار كانت الصين تُعلن عمليًّا أن العالم يدخل مرحلة إعادة تشكيل جذرية، وأن بكين تضع نفسها في موقع القلب من نظام دولي جديد يتحدى الغرب.
من جانبه، اعتبر محمد صلاح الدين، الخبير في الشؤون الآسيوية، أن القمة تمثل "أهم نسخة" على الإطلاق، نظرًا للتحولات الجذرية في النظام الدولي، خاصة في ظل التنافس الصيني- الأمريكي وصعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مجددًا إلى المشهد السياسي.
لم يكن حضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بجانب شي مجرد مشهد بروتوكولي. بوتين، الذي حظي مؤخرًا باستقبال استثنائي في ألاسكا من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رغم استمرار حرب أوكرانيا، يؤكد من تيانجين أن تحالفه مع بكين ثابت ولا يتأثر بعروض واشنطن.
أما مودي، فقد جاء بعد 7 سنوات من الغياب عن الصين، محمَّلًا بخيبة أمل من الرسوم الجمركية الأمريكية العقابية بنسبة 50% التي فرضها ترامب، ليجد في بكين متنفسًا وفرصة لإعادة التوازن.
يشكل هذا المثلث (الصين-روسيا- الهند) ركيزة جديدة لمعادلة القوة، في وقت يتقاطع فيه مع حضور إيران وكوريا الشمالية، في رسالة واضحة: العالم لم يعد غربيًا خالصًا.
في السياق، أوضح صلاح الدين في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز" أن التقارب الحالي بين الصين والهند لا يمكن وصفه بتحالف إستراتيجي كامل، بل هو أقرب إلى "تحالف ضرورة" أو "تقارب ضرورة" تمليه الظروف الجيوسياسية الراهنة. فالهند – بحسب قوله – تنظر إلى العالم من زاوية التعددية القطبية، إذ ترفض هيمنة مطلقة سواء من واشنطن أو بكين، لكنها في الوقت نفسه تسعى لتكون أحد أقطاب النظام العالمي الجديد، حتى وإن كان ترتيبها الرابع بفعل عوامل اقتصادية وسياسية.
في افتتاح القمة، أطلق شي جين بينغ رسائل مباشرة، منها "التحول الذي سيحدد ملامح القرن يتسارع، وسط تصاعد عوامل عدم الاستقرار وعدم القدرة على التنبؤ"؛ ثم تابع مهاجمًا "عقلية الحرب الباردة وأعمال الترهيب".
يعكس خطاب شي إستراتيجية متكاملة، من حيث تقديم الصين كقطب "الاستقرار" في عالم مُنهك، وإعلان أن الجنوب العالمي يستحق قيادة جماعية جديدة.
ومع تراجع الثقة بالولايات المتحدة، وظهور صور الدمار في غزة نتيجة الدعم الغربي لإسرائيل، يبدو أن بكين وجدت اللحظة المناسبة لتصنع سردية بديلة تُقوض أي ادعاء غربي بالتفوق الأخلاقي.
جمعت تيانجين قادة من مشارب مختلفة، من ألكسندر لوكاشينكو في بيلاروسيا إلى الجنرال البورمي مين أونغ هلاينغ، مرورًا بالرئيس الإيراني مسعود بزشكيان وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون؛ حيث استقبلتهم الصين جميعًا بحرارة، في برهان على سياسة "الأبواب المفتوحة" بلا محرمات أيديولوجية.
حتى أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، حضر ليجد نفسه وسط هذا الاستعراض، حيث تعرض بكين نفسها كفاعل دولي موثوق، مقابل انسحاب واشنطن من المنظمات الدولية بحجة تقليص التكاليف.
ولم تكن القمة الكبرى في تاريخ منظمة شنغهاي للتعاون مجرد نقاش حول الأمن والحدود، بل نقطة تحول؛ فقد أعلن شي عن تأسيس بنك للتنمية تابع للمنظمة، ورصد مليار دولار كقروض خلال السنوات الثلاث المقبلة، إضافة إلى تقديم 2 مليار مساعدات و10 مليارات قروض لأعضاء المنظمة.
لم يقتصر الحضور على الأعضاء المؤسسين، بل شمل مصر وماليزيا وتركيا والإمارات، كما حضرت الهند بعد طول غياب، فيما شاركت باكستان وهي تستند إلى منظومات أسلحة صينية عززت موقعها العسكري في مواجهة نيودلهي خلال الاشتباكات الأخيرة.
هذا المشهد رسم صورة "جنوب عالمي" متماسك أكثر من أي وقت مضى، يلتف حول الصين كمحور توازن، في مقابل الغرب المنهك والمتردد.
المفارقة أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أسهم دون قصد في تقوية هذا التماسك الشرقي، وذلك من خلال سياساته التجارية العقابية، التي دفعت الهند إلى أحضان بكين، بينما وفرت انفتاحاته على بوتين شرعية روسية غير مسبوقة، لم تُعرقل تقارب موسكو وبكين بل عززته.
بالمقابل، غاب الغرب تقريبًا عن الحدث، باستثناء رئيس وزراء سلوفاكيا ورئيس صربيا، في دلالة رمزية على انقسام المعسكر الغربي في التعامل مع بكين.
وفي ما يخص التداعيات على النفوذ الغربي، شدد الخبير في الشؤون الآسيوية على أن السنوات الأخيرة شهدت تراجعًا ملحوظًا للوجود الغربي في إفريقيا، وعلى رأسه فرنسا، في مقابل صعود النفوذ الصيني المتزايد عبر مشاريع "الحزام والطريق" والاستثمارات الكبرى. ويرى صلاح الدين أن هذه التحولات جزء من مسار مستمر يعيد رسم خرائط النفوذ في آسيا وإفريقيا على السواء.
إن ما جرى في تيانجين ثم بكين يتجاوز قمة إقليمية أو عرضًا عسكريًّا؛ بل إنه إعلان صيني عن بديل حقيقي للنظام العالمي الغربي، حيث تُقدم بكين نفسها كقوة جامعة للجنوب العالمي، مستعدة لتوفير التمويل، والاحتضان الدبلوماسي، وحتى الحماية العسكرية.
ومع كل عرض قوة أو خطاب وحدَوي، يزداد الضغط على النظام الغربي الذي يبدو أقل تماسكًا. والسؤال الأهم: هل الصين تريد قيادة العالم؟ بل: هل العالم – أو على الأقل نصفه – بات مستعدًا لقبولها زعيمة للقرن الحادي والعشرين؟