في مشهد عسكري استثنائي، كشفت الصين لأول مرة عن قدراتها النووية الاستراتيجية الكاملة – ما يُعرف بالثالوث النووي – خلال العرض العسكري الحاشد الذي أُقيم في بكين يوم الأربعاء بمناسبة الذكرى الثمانين لانتصارها في حرب المقاومة ضد العدوان الياباني والحرب العالمية ضد الفاشية.
هذه الخطوة لم تكن مجرد استعراض للقوة العسكرية، بل حملت رسائل سياسية واستراتيجية إلى الداخل والخارج على حد سواء.
شملت التشكيلات العسكرية عرض أربعة أنظمة رئيسة من الترسانة النووية: صاروخ "جينجلي-1" بعيد المدى الذي يُطلق من الجو، وصاروخ "جولانج-3" العابر للقارات المخصص للإطلاق من الغواصات، إلى جانب صاروخي "دونج فينج-61" و"دونج فينج-31" العابرين للقارات اللذين يُطلقان من البر.
تمثل هذه الأنظمة مجتمعة القاعدة الثلاثية التي تسعى الصين منذ سنوات إلى تطويرها، لتؤكد امتلاكها قوة ردع استراتيجية متكاملة قادرة على العمل من البر والبحر والجو.
ووصفت وسائل الإعلام الرسمية الأسلحة المعروضة بأنها "القوة الاستراتيجية البارزة" التي تمتلكها الصين لحماية سيادتها وضمان كرامة الأمة.
غير أن دلالات العرض تتجاوز البعد العسكري البحت. فبكين أرادت، وفق محللين، أن تُظهر للعالم قدرتها على فرض معادلة ردع متوازنة في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها، في وقتٍ تتصاعد فيه التوترات حول تايوان وبحر الصين الجنوبي.
الاستعراض النووي يأتي كذلك في سياق سياسي حساس. فبينما تسعى واشنطن لتعزيز تحالفاتها العسكرية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتواصل طوكيو وسيول تقوية روابطهما الدفاعية مع الولايات المتحدة، أرادت بكين أن تذكّر الجميع بأنها لاعب لا يمكن تجاوزه في المعادلة الأمنية الإقليمية.
كما أن تزامن العرض مع حضور دولي رفيع المستوى، بمن فيهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، يعكس محاولة الصين تعزيز صورة محور مضاد للهيمنة الغربية.
داخليًا، يُنظر إلى العرض باعتباره وسيلة لتعزيز الوحدة الوطنية وإبراز إنجازات جيش التحرير الشعبي في ذكرى تاريخية؛ فإحياء "انتصار الصين على الفاشية" يحمل دلالة رمزية تهدف إلى ترسيخ سردية القيادة الصينية حول استعادة مكانة البلاد كقوة عظمى بعد قرن من "الإذلال الاستعماري".
لكن في المقابل، يُثير الكشف العلني عن الثالوث النووي مخاوف تتعلق بسباق التسلح. فبينما تُؤكد الصين أن استراتيجيتها الدفاعية قائمة على "الردع وعدم الاستخدام الأول"، فإن شفافية العرض وتوقيته قد يُحفّزان مزيدًا من التحديثات في الترسانات النووية الأمريكية والروسية، فضلًا عن دفع دول آسيوية مثل اليابان وكوريا الجنوبية لإعادة تقييم خياراتهم الأمنية.
وبينما رحب الإعلام المحلي بالعرض باعتباره "إعلان نهوض الأمة الصينية"، يرى خبراء أن الرسالة الأهم كانت للخارج: الصين لم تعد قوة اقتصادية وصناعية فحسب، بل باتت أيضًا قوة عسكرية نووية متكاملة قادرة على حماية مصالحها في مواجهة أي تهديد.
في نهاية العرض، لم يكن المشهد مجرد استعراض لصواريخ عملاقة تمر في شوارع بكين، بل كان بمثابة إعلان واضح أن الصين تدخل مرحلة جديدة من استراتيجيتها الكبرى: مرحلة التوازن النووي، حيث لا تكتفي بردع خصومها بل تسعى لفرض نفسها كقوة عظمى متكاملة على المسرح الدولي.