تسابق دول آسيا الوسطى الزمن لتقوية صلاتها مع باكستان، في تحول لافت يطوي صفحة عقود من التنافس الاستراتيجي والريبة المتبادلة.
وجاءت زيارة الرئيس القيرغيزي سادير جاباروف إلى إسلام آباد مطلع ديسمبر، وهي أول زيارة رئاسية منذ أكثر من عشرين عامًا، لتُظهر حجم الرهانات السياسية والاقتصادية التي تجمع الطرفين اليوم، بحسب صحيفة "أوراسيا نت".
اقتصاد يبحث عن منافذ جديدة
تولي عواصم آسيا الوسطى أهمية متزايدة لوصولها إلى المياه الدافئة عبر الموانئ الباكستانية، باعتبارها بوابة حيوية إلى التجارة العالمية.
ورغم تواضع الأرقام الحالية، إذ لم تتجاوز قيمة التبادل التجاري بين باكستان وقيرغيزستان في 2024 مبلغ 16 مليون دولار أمريكي، فإن الجانبين يرفعان سقف الطموح إلى 200 مليون دولار بحلول 2028.
أما أوزبكستان، الشريك الأبرز لإسلام آباد في المنطقة، فتسعى مع باكستان إلى دفع حجم التجارة الثنائية إلى ملياري دولار على المدى المتوسط، فيما تترقب كازاخستان زيارة للرئيس قاسم جومارت توكاييف إلى باكستان مطلع العام المقبل لإطلاق مرحلة تجارية قد تصل إلى مليار دولار سنويًا.
تعكس هذه المؤشرات وعيًا إقليميًا متناميًا بأهمية الطرق البرية وخطوط السكك الحديدية العابرة للحدود؛ فمشروع ربط أوزبكستان وباكستان عبر طاجيكستان أو قيرغيزستان مرورًا بالصين، وإن بدا واعدًا من حيث تقليل المسافات وكلفة النقل، إلا أنه يظل مرهونًا بقدرة الدول على تجاوز اختناقات البنية التحتية والبيروقراطية.
أفغانستان من نقطة خلاف إلى منصة تعاون
كانت أفغانستان تاريخيًا ساحة تتجسد فيها التوترات؛ دول آسيا الوسطى دعمت القوى المناوئة لطالبان في التسعينيات، فيما كانت باكستان الحاضن الرئيس لصعود الحركة.
لكن انقلاب المشهد بعد سيطرة طالبان مجددًا على كابول عام 2021 وما تلاه من تدهور في علاقاتها مع إسلام آباد، فتح باب اصطفاف جديد.
تتشارك باكستان اليوم، مع جيرانها الشماليين مخاوف تتعلق بتنامي نشاط الجماعات المتشددة عبر الحدود، وتهريب المخدرات والجريمة المنظمة.
ويعزز هذا التهديد المتصاعد التقاء المصالح الأمنية، كما ظهر في الاتفاقات المعلنة بين جاباروف ورئيس الوزراء محمد شهباز شريف بـ"ضرورة أن يفي نظام طالبان بالتزاماته تجاه المجتمع الدولي" وبالتنسيق الأمني لاحتواء التطرف.
كما دخلت طاجيكستان، التي شهدت مؤخرًا هجمات انطلقت من داخل أفغانستان، هي الأخرى في حوار نشط مع باكستان بشأن تبادل المعلومات ورفع مستوى التنسيق العسكري.
جغرافيا الفرص ومعضلة الاستقرار
تدرك آسيا الوسطى أن رهانها الحقيقي على الشراكة مع باكستان يكمن في تجاوز عنق زجاجة الجغرافيا. فالوصول إلى الموانئ الباكستانية يعني تنويع الشركاء بعيدًا عن الاعتماد شبه المطلق على روسيا والصين.
لكن هذه الفرصة الاقتصادية الاستراتيجية تصطدم بعقبة لا يمكن تجاوزها بسهولة: عدم الاستقرار في أفغانستان.
خط السكك الحديدية المزمع إنشاؤه عبر قلب البلاد يمكن أن يختصر المسافات ويخفض التكاليف، لكنه يبقى معلقًا بانتظار بيئة أمنية أكثر استقرارًا، وإرادة سياسية قادرة على دفع طالبان نحو لعب دور مسؤول في تأمين طرق التجارة الإقليمية.
تدخل العلاقات بين آسيا الوسطى وباكستان مرحلة جديدة من إعادة التموضع الجيوسياسي، حيث تلتقي الحاجة الاقتصادية مع متطلبات الأمن الإقليمي.
كما بات الطريق مهيأً لتعاون أعمق، بشرط إدارة تهديدات أفغانستان وتسريع مشاريع الربط القاري وإزالة الحواجز التجارية مع الحفاظ على توازن العلاقات مع القوى الكبرى.
وفي منطقة تتغيّر بسرعة، يدرك الجانبان أن ما يجمعهما اليوم يفوق ما كان يفرّقهما في السابق.