يبينما كانت قاذفة الشبح النووية B-2 تحلّق في سماء أنكوريج خلال لقاء ترامب وبوتين، لم يكُن ذلك مجرّد استعراضٍ جوي لتحية زعيمٍ زائر، بل رسالة محسوبة بدقة.. أمريكا تُذكّر بوتين بأن بإمكانها إنهاء اللعبة في ثوانٍ. ذلك أن ترامب لا يلعب دور رجل الدولة التقليدي، بل يُجيد استخدام أدوات الردع القصوى في لحظاتٍ حرجة.
واشنطن تعود إلى "الدبلوماسية بالقاذفات"
وفي مواجهة زعيمٍ يُلوِّح بالسلاح النووي منذ سنوات، قرَّر ترامب أن يُجاريه بلغته... وربَّما يتفوق عليه، ووفق قراءةٍ غير تقليدية، تتكشَّف رسالةٌ نفسية – استراتيجيةٌ من ترامب: “أنا لست بايدن، ولا ألعب بقواعدكم”.
في مشهد يبدو أنه مأخوذ من سيناريو “الحافة النووية”، يرفع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب شعارًا جديدًا: السلام من فوهة الرعب النووي. وبينما ينشغل العالم بحسب صحيفة "فورين بوليسي"، بحديث الضمانات الأمنية لأوكرانيا، يعمل ترامب على تقديم نفسه كصانع سلام من نوع غير مألوف – سلام مشروط بالتهديد الوجودي، ليبرز السؤال بين أبخرة القاذفات: هل هذا حوار سلامٍ، أم لعبة ابتزازٍ نووي متقنة؟
غير أن اللحظة تكشف عودةً مقلقةً إلى استخدام الردع النووي كسلاحٍ سياسي مباشر، بعد عقودٍ من التراجع الأمريكي عن هذا النوع من الابتزاز العلني.
من جانبه، وصف الباحث في الشؤون السياسية معمر السليمان، أن التحليق المتزامن لقاذفات B-2 أثناء استقبال ترامب لبوتين يمكن فهمه باعتباره رسالة ردع محسوبة أكثر من كونه تهديدًا مباشراً باستخدام القوة النووية.
وأضاف "السليمان" في تصريحاتٍ خاصة لـ"إرم نيوز" أن الولايات المتحدة سعت من خلال هذا التوقيت الرمزي إلى تعزيز موقفها التفاوضي، وإظهار أن الحوار مع موسكو يتم من موقع قوة لا ضعف.
ترامب والورقة النووية
رغم انتقاد بعض المحللين -بحسب صحيفة "فورين بوليسي"- لاستخدام ترامب للغة النووية واعتبارها مخاطرةً، فإن الواقع يشير إلى أن التصعيد النووي قد يكون، وفق رؤيته، أداة تفاوضٍ فعّالة لإنهاء الحرب. ترامب قد يهدد بأن الولايات المتحدة والناتو سيضطران إلى تعزيز ردعهما النووي إذا استمرت الحرب، في مقابل إمكانية التراجع عن هذه الخطوات إذا تحقق السلام. هذا التصعيد قد يشمل نشر أسلحة نووية جديدة في أوروبا، والانسحاب من معاهدة "ستارت الجديدة"، وزيادة الترسانة الأمريكية.
وبينما نفى الرئيس التنفيذي للمركز الدولي للتحليل والتنبؤ السياسي "DIIPETES" دينيس كوركودينوف، صدور تهديداتٍ أمريكيةٍ مباشرة، لكنه أكَّد في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز" أن رمزية الخطوة الأمريكية تعمل في إطار عقيدة الردْع النووي، وجزء من استراتيجية "عدم التوقُّع" لترامب، المصممة لتعزيز مصداقية التهديدات.
ويرى خبراء غربيون أن العقوبات وحدها لا تكفي لإرغام بوتين على التراجع، فيما يُعتبر الابتزاز النووي وسيلةً أكثر فعالية للضغط على الكرملين، الذي لا يكترث بالأضرار الاقتصادية بقدر ما يقلق من التهديد المباشر بوجوده.
لكي يكون هذا التهديد فعالًا، ينبغي أن يترافق مع تطمينات. ومن هنا يمكن لترامب أن يربط تعديل الانتشار النووي الأمريكي بمآلات المفاوضات حول أوكرانيا، فإذا تحقق السلام، يمكن تقليص التهديد النووي.
يعرف بوتين جيدًا أن الأسلحة النووية تمثل آخر رموز مكانة روسيا كقوة عظمى. وقد أصبحت هذه الأسلحة محورًا لاستراتيجيته العسكرية، حيث لم يتوقف عن استخدامها كأداة تهديد في وجه الغرب.
وقد نجحت هذه التهديدات سابقًا، إذ أبدى الرئيس بايدن حذرًا كبيرًا، وخفف الدعم الأمريكي لأوكرانيا خشية التصعيد النووي. أما ترامب، فيبدو أقل تحفظًا وأكثر استعدادًا للمضي قدمًا في لعبة "حافة الهاوية".
ورغم أن تصرفات ترامب قد تبدو غير محسوبة للبعض، إلا أن هذه السمة قد تكون ميزة في سياق الردع النووي، إذ تعزز من مصداقية التهديد.
ووفق هذا المنطق، فإن ترامب لا يُستبعد أن يصعّد لغويًا ونوويًا لسببين رئيسيين: أولًا، لمواجهة تهديدات بوتين بالمثل، وثانيًا، لزيادة الضغط من أجل دفع موسكو إلى التفاوض بجدية. حتى الآن، ركّز ترامب على تقديم عروض لبوتين، لكنها لم تؤدِ إلى وقف القتال.
ومع مرور الوقت، يبدو أن صبر ترامب بدأ ينفد. فقد وافق مؤخرًا ولأول مرة على إرسال أسلحة أمريكية إلى أوكرانيا بتمويل أوروبي، وهدّد بفرض رسوم جمركية وعقوبات ثانوية على دول مثل الصين والهند التي تشتري الطاقة الروسية. وأعلن أنه قد يُرجئ هذه الإجراءات على أمل التوصل إلى اتفاق ثلاثي مع بوتين وزيلينسكي، لكن في حال فشل هذه المحادثات، من المتوقع أن يعود ترامب إلى التصعيد، ومعه تُطرح الورقة النووية بقوة.
وفي السياق ذاته أضاف السليمان أن هذه الخطوة لا تستهدف روسيا وحدها، بل تحمل أيضًا بعدًا موجهًا للرأي العام الأمريكي والدولي؛ فهي تسعى إلى طمأنة الداخل الأمريكي بأن واشنطن ما زالت تمتلك القدرة على الردع والقيادة، وفي الوقت نفسه إقناع الحلفاء بأن الولايات المتحدة قادرة على فرض إرادتها الاستراتيجية في الملفات الكبرى.
ثلاث خطوات
قد يهدد ترامب بنشر أسلحة نووية في بولندا ودول أخرى على حدود الناتو، إذا لم تتوقف الحرب. وهذا يعيد إلى الأذهان سياسة الردع في الحرب الباردة، حين كانت الأسلحة النووية الأميركية تتمركز قرب خطوط المواجهة.
كما أنه قد يُعلن أيضًا مع قادة الناتو خطة لتحديث الترسانة النووية الأمريكية في أوروبا، مع التركيز على صواريخ كروز تطلق من الجو أو الأرض بدلًا من قنابل الجاذبية التقليدية B-61.
ومن المتوقع أن يهدد بالخروج من المعاهدة التي تنتهي عام 2026، وبزيادة عدد الرؤوس النووية على منصات الإطلاق الأمريكية، خاصة لمواجهة تصاعد ترسانة الصين.
"إما سلام... أو صواريخ"
وبغض النظر عن نتيجة الحرب، ستحتاج واشنطن إلى تحديث وضعها النووي، لكن يمكن استخدام هذه الخطوات كأوراق ضغط في المفاوضات مع الناتو وبوتين.
وكما قال الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت أيزنهاور: "إذا لم تتمكن من حل مشكلة، فوسِّعها." وربَّما يكون توسيع نطاق مفاوضات أوكرانيا بالتهديد النووي، هو ما يراه ترامب السبيل الحقيقي نحو إحلال السلام في أوروبا.
في قلب خطاب ترامب، لا يكمن فقط الطموح في إنهاء الحرب، بل إعادة تعريف القوة الأمريكية: ليس كدولة تحارب... بل كدولة تُخيف. وبينما يبدو ذلك تهديدًا مخيفًا، فإنه في عالم بوتين – قد يكون الطريقة الوحيدة للتفاوض.
فيما نفى السليمان أن يكون الخيار النووي مطروحًا على الطاولة بشكلٍ فوري -من الناحية العملية- وإنما يهدف إلى إبقاء هذا الاحتمال حاضرًا في الوعي السياسي والعسكري، بما يعزز من فعالية الضغوط الدبلوماسية. إنها باختصار مزجٌ بين الدبلوماسية واستعراض القوة لتقوية أوراق التفاوض في ملف أوكرانيا.
ومع ذلك، خلُص "كوركودينوف" إلى أن الرهان على الابتزاز النووي محفوفٌ بالمخاطر: إذ أن فشل المفاوضات الثلاثية مع زيلينسكي، يُهدِّد بحدوث أزمةٍ مماثلةٍ لأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962.