أثارت مواقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعودة استغلال وتحكم واشنطن مرة أخرى بقاعدة "باغرام" الأفغانية، تساؤلات حول أسباب تلك الخطوة، التي جاءت بعد محاولات مباشرة وغير مباشرة من بينها عروض على طاولة المفاوضات، وفي ظل رفض موحد من كافة الأوساط والتيارات في كابول لهذه العودة أو أي وجود أجنبي، ووسط رهانات على هذه القاعدة من قوى دولية منذ العهد الملكي، من بريطانيا إلى الاتحاد السوفيتي وصولًا إلى الولايات المتحدة.
يقول خبراء إستراتيجيون، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، إن تمسك ترامب بالعودة العسكرية الأمريكية إلى "باغرام" يحمل مكاسب إستراتيجية للتجهيز والاستعداد لـ"الحروب المؤجلة" في آسيا والتي منها مع الصين، كون القاعدة نقطة ارتكاز تجاه الصين وللضغط على روسيا وفرض أمور على إيران وعلاقتها بالكثير من الملفات الدولية.
وأشاروا إلى أن ما يخرج من ترامب حول ضرورة العودة إلى هذه القاعدة، يأتي في إطار العمل على توجيه ضربة انتخابية للديمقراطيين ووضع مسؤولية الانسحاب من "باغرام" على الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، في مشهد انتقامي تجاه الساكن السابق للبيت الأبيض .
وكان ترامب أكد مؤخرًا، أنه يجري محادثات مع أفغانستان بشأن استعادة السيطرة على "باغرام" الجوية، مضيفًا أنه "ما كان ينبغي لنا التخلي عنها مطلقًا".
ومن كابول، يؤكد الخبير الإستراتيجي ورئيس مركز أفغانستان للدراسات والإعلام، الدكتور فضل الهادي وزین، أن "باغرام" شمال كابول ولاية بروان هي أكبر قاعدة جوية في أفغانستان، بناها الاتحاد السوفيتي في العهد الملكي بالتعاون مع الحكومة القائمة وقتئذ وعندما تم الاجتياح السوفيتي للبلاد كان يستخدمها الروس كقاعدة أساسية ومع الغزو الأمريكي في 2001، استولوا عليها وقاموا بتطويرها وتوسعتها.
وأضاف وزين في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن باغرام قاعدة إستراتيجية في وسط أفغانستان وبعد انسحاب القوات الأمريكية من البلاد تركوها.
وبحسب التصريحات من مختلف الأطراف، فإن واشنطن سعت للاحتفاظ بهذه القاعدة حتى لو بشكل رمزي، لكن حركة طالبان خلال مفاوضات الدوحة رفضت الطلب الأمريكي.
وتابع وزين أن الولايات المتحدة عملت بعد مفاوضات الدوحة على إيجاد موطئ قدم في هذه القاعدة لكن طالبان رفضت ذلك في ظل توفيرها مقرًّا أرضيًّا للطائرات، وأيضًا مع قربها من باكستان والصين وآسيا الوسطى؛ ما يجعلها ذات أهمية كبيرة لذلك تحرص واشنطن أن تعود إلى باغرام.
وأفاد وزين أنه بحسب تصريحات طالبان ووزير الخارجية الأفغاني، فإن الأمريكيين حاولوا مرارًا العودة إلى القاعدة لكن كابول رفضت ذلك، رغم أن هناك ترحيبًا للتعامل الدبلوماسي والتجاري مع واشنطن، ولكن بعيدًا عن وجود أي جندي أمريكي في باغرام أو غيرها.
وأوضح أن الشعب الأفغاني يرفض جملةً وتفصيلًا وجود القوات الأجنبية في البلاد مشيرًا إلى أن البريطانيين جربوا ذلك وعانوا منه وانهزموا، والأمر ذاته للاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، إذ حاولتا احتلال البلاد، وفشلتا. ولذلك تبقى قاعدة باغرام أفغانية ولا يوجد استعداد لوجود أجنبي فيها.
وبحسب وزين، فإن الرفض ليس فقط من جانب طالبان ولكن الحال ذاتها من الأوساط والتيارات الأفغانية، إذ انتقدوا ما جاء على لسان ترامب ويبدو أن أي محاولة أجنبية لغزو أفغانستان أو التدخل العسكري سيوحد الشعب، لافتًا إلى أن التعاون الدبلوماسي أو التجاري من جميع دول العالم بما فيها الولايات المتحدة مرحب به دون التدخل في سيادة أفغانستان أو أي أمر يهدد استقلالها أو تواجد أجنبي في أي بقعة على أراضيها.
فيما يقول المحاضر في العلوم السياسية والباحث في مركز البحوث العلمية والتطبيقية والاستشارية في موسكو، الدكتور ميرزاد حاجم، إن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بهذا الشكل دون المحافظة على أيّ قواعد كان خطأً كارثيًّا وكبيرًا على واشنطن في ظل بناء سياسات الولايات المتحدة على التوازنات خاصة مع أهمية أفغانستان الجيوستراتيجية كنقطة توازن حيث إنها في قلب نقطة الارتكاز بين إيران والصين.
ويرى حاجم في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن ترامب ذكر هذا الموضوع أكثر من مرة، ووصف الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن بأوصاف لا يصح ذكرها للقيام بهذا الانسحاب؛ ما يوضح الرغبة في تحميله المسؤولية في ذلك، في ظل وجود حروب مؤجلة في القارة الآسيوية بشكل عام منها مواجهة الصين وتايوان، تحتاج واشنطن لها نقطة ارتكاز، وصولا إلى التصعيد مع بكين وما سيترتب عنه أو أي احتمال لحرب قادمة.
وبين حاجم أن واشنطن لها نقاط ارتكاز أخرى ولكنها بعيدة، وبكين استغلت ذلك في تغيير نقاط اللعب العسكرية وهذا الخروج المهين لواشنطن من أفغانستان لكونها هربت من هناك جاءت بتأثيرات عكسية أمام الولايات المتحدة، بعد أن أرادت ترك بقعة من "الفوضى الخلاقة" لتعود إليها بعد ذلك، لكن السياسات الأمريكية كانت مخطئة في حساباتها في وقت استغل فيه اللاعبون الكبار الروس والصينيون ذلك وقاموا باحتواء القيادة الأفغانية وكانوا أكثر حرصًا في التعامل مع هذه البقعة.
وذكر حاجم أن الحرب المؤجلة في آسيا والأوضاع في آسيا الوسطى، تتطلب نقاط توازن بالنسبة لواشنطن، وإن لم تتواجد الأخيرة هناك سيحضر اللاعبون الآخرون، والولايات المتحدة لديها بشكل عام خطة ضد موسكو تستهدف تكوين "أناكوندا" (جنس من الثعابين العملاقة) حول روسيا والدول الحليفة لها والتعامل مع الصين ومراقبة إيران في الوضع الحالي، لذلك إستراتيجيًّا وعسكريًّا جاء الخروج من أفغانستان، بخسائر فادحة للولايات المتحدة.
وأشار "حاجم" إلى أن الرجوع الأمريكي اليوم إلى أفغانستان أصبح شبه مستحيل وغير ممكن عسكريًّا عبر إرسال آلاف الجنود الأمريكيين في وقت كان يعلن فيه ترامب في بضع مرات أنه ضد إرسال قوات أمريكية إلى مواقع في العالم لحماية المصالح الأمريكية وأنه يمكن التعامل مع هذه المصالح بأشكال أخرى لكن الوضع مع أفغانستان مختلف للغاية.
واستكمل "حاجم" أن قاعدة باغرام هي نقطة ارتكاز سياسي يستخدمها ترامب في الانتخابات القادمة ضد الديمقراطيين نظرًا لدور "بايدن" في الأمر، وسيتحدث عن الخيبة الإستراتيجية التي وقعوا فيها واستغلال موسكو وبكين ذلك بعد أن كانت القاعدة نقطة ارتكاز للولايات المتحدة لإتمام أي تحرك عسكري في آسيا الوسطى للتعامل مع الصين والضغط على روسيا وفرض أمور على إيران والكثير من الملفات الساخنة المتعلقة بالحروب المؤجلة عالميا هناك.