مع تصاعد التوترات الجيوسياسية في الشمال المرتفع، تتحول الدائرة القطبية إلى ساحة معركة محتملة تختبر قدرات القوات الأمريكية وحلفاء الناتو، في حرب محتملة بعد 5 سنوات وفق تقديرات غربية.
وتاريخياً، نادراً ما شهد القطب الشمالي صراعات مسلحة، آخرها كانت حرب الشتاء الفنلندية عامي 1939 و1940، لكن التقارير الغربية التي تؤكد أن روسيا تعدّ لحرب ضد دول في الناتو، بعد نهاية الصراع في أوكرانيا، وهو ما يعيد هذه البقعة الجغرافية إلى دائرة الضوء مجدداً.
واليوم يقع معظم أراضي حلف شمال الأطلسي في القطب الشمالي في أمريكا الشمالية، لكن حدوده البرية مع روسيا تقع في شمال أوروبا، وأمضت السويد وفنلندا، على وجه الخصوص، عقوداً في التدريب على مواجهة أي صراع محتمل مع روسيا.
يخشى الغرب من أن تستخدم موسكو القطب الشمالي لشنّ هجوم على منطقة البلطيق أو فنلندا، إذ ربّما تحاول موسكو الاستيلاء على جزء محدود من الأراضي في مدينة نارفا الحدودية شرق إستونيا، أو أرخبيل سفالبارد النرويجي في القطب الشمالي، أو جزيرة جوتلاند السويدية في بحر البلطيق، وفق ما تنقل صحيفة "وول ستريت جورنال" عن خبراء.
وقد تُسيطر حملة أوسع نطاقاً على منطقة تُعرف باسم "غطاء الشمال"، وتشمل أقصى شمال النرويج والسويد وفنلندا، مما يسمح لروسيا بالهيمنة على الممر البحري الشمالي.
وفي حالة وقوع هجوم روسي، فمن المرجح أن يتم تعويض القوات النرويجية والسويدية والفنلندية بقوات حلف شمال الأطلسي التي تتدفق إلى القطب الشمالي، بما في ذلك القوات الأمريكية المتمركزة في ألمانيا وبولندا.
وبما أن روسيا تهيمن على القطب الشمالي، فإن الغرب يستطيع استخدام المنطقة لردع الهجوم الروسي من خلال التهديد الضمني لمصالحه، مثل ممرات الشحن والبنية الأساسية، كما يقول برايان كلارك، مدير مركز مفاهيم الدفاع والتكنولوجيا في معهد هدسون في واشنطن.
يفرض القطب الشمالي قيوداً فريدة على التكنولوجيا العسكرية، إذ إن السفن تحتاج إلى مواد تشحيم خاصة وهياكل معززة لتحمل الجليد، بينما توفر الغواصات غطاء طبيعياً تحت الجليد، لكنها تواجه صعوبات في الملاحة والاتصالات.
وروسيا، بفضل خبرتها الطويلة في هذه المنطقة، تمتلك ميزة استراتيجية مع غواصاتها القادرة على كسر الجليد وصواريخها بعيدة المدى، في المقابل، يعتمد حلف الناتو على استراتيجيات دفاعية تعتمد على المشاة والتكتيكات التقليدية.
ويؤكد اللواء جوني ليندفورس، رئيس أركان الجيش السويدي، أن "الدفاع عن الأرض يتطلب أحذية على الأرض وملابس بيضاء". هذا الاعتماد على المشاة يعكس طبيعة المنطقة التي تجعل التقنيات الحديثة أقل فعالية.
في ظل درجات حرارة دون الصفر وتحديات بيئية غير مسبوقة، يواجه الجنود ظروفاً قاسية تهدد حياتهم، حيث يصبح البقاء على قيد الحياة تحدياً لا يقل أهمية عن القتال نفسه.
والبرد القارس العدو الأكبر في القطب الشمالي، حيث يفقد الجنود ما يصل إلى 3000 سعرة حرارية يومياً، حتى مع تناول وجباتهم الكاملة؛ بسبب الجهد الهائل الذي يبذله الجسم للحفاظ على درجة حرارته.
ويقول الرقيب الرائد فريدريك فلينك، من الجيش السويدي، إن "الجنود المعاصرين يركزون على مظهر رياضي، لكن هنا، بعد ثلاثة أيام فقط، ينهارون من الإرهاق".
فلينك، الذي يقود تدريبات الحرب الشتوية لمشاة البحرية الأمريكية في شمال السويد، يشير إلى أن الجسم الممشوق قد يكون ميزة في صالات الرياضة، لكنه عيب قاتل في بيئة القطب الشمالي التي تتطلب احتياطيات دهنية لمقاومة البرد.
والظروف القاسية لا تقتصر على البرد، فالأضواء الشمالية، رغم جمالها، تعطل الاتصالات الراديوية، مما يعيق العمليات العسكرية، كما أن البطاريات تنفد بسرعة، والوقود يتجمد، والطائرات المسيرة التي أثبتت فعاليتها في حروب مثل أوكرانيا تصبح غير عملية هنا، إذ تحتاج إلى وقود خاص وأنظمة إزالة الجليد، مما يجعلها ضخمة وتحتاج إلى مدارج للإقلاع.
هذه التحديات تجبر القوات على العودة إلى الأساليب التقليدية، مثل استخدام الزلاجات والمشاة بزي أبيض للتمويه في الثلوج، لكن التحدي الأكبر يكمن في دعم القوات لفترات طويلة. العقيد النرويجي فيجارد فلوم، الذي يقود مركز التميز لعمليات الطقس البارد التابع للناتو، يروي تجربته الشخصية عندما تجمدت جواربه بعد يوم واحد في البرد، تاركة آثارًا دائمة في قدميه.
"لا أحد يستطيع التنبؤ بشدة البرد إلا بعد اختباره"، يقول فلوم، مشيراً إلى أن التكيف مع هذه الظروف يتطلب مهارات لا يمكن إتقانها بالكامل.
تدريبات مثل "الذئب المنفرد"، التي يقودها فلينك، تكشف عن هشاشة الإنسان أمام الطبيعة القطبية. في إحدى الحوادث، نسي جندي استخدام كيس نوم ثلاثي الطبقات، مما جعله يواجه البرد القارس دون حماية كافية. هذه الأخطاء البسيطة قد تكون قاتلة.
في حادثة أخرى، انقلبت دبابة نرويجية خلال تدريب، مما أدى إلى مقتل جنديين، مما يبرز المخاطر التي لا تقتصر على البرد بل تشمل التضاريس الخطرة.
العميد تيرجي برويغارد، قائد اللواء الشمالي النرويجي، يروي قصة سقوطه في بحيرة متجمدة ونجاته بأعجوبة، مشيرًا إلى أن التكيف مع البرد يتطلب قبول استحالة مقاومته بشكل كامل.
في تدريب آخر، أُجلي 12 من مشاة البحرية الأمريكية بعد إصابتهم بقضمة الصقيع، مما يكشف عن نقص الاستعداد لبعض الوحدات.