في لحظة فارقة من توازنات الشرق الأوسط والملف النووي الإيراني، أعلنت موسكو وطهران عن اتفاق جديد لتوسيع التعاون النووي بينهما.
وذكرت صحيفة "التليغراف" أن الاتفاق الذي جاء بعد لقاء جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين برئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية، محمد إسلامي، في موسكو، يتجاوز البعد التقني ليطرح أسئلة حول مسار البرنامج النووي الإيراني ومستقبله في ظل الانقسامات الداخلية والضغوط الدولية المتصاعدة.
أوضح محمد إسلامي خلال زيارته أن روسيا ستلعب دورًا محوريًا في خطة إيران الطموحة لإنتاج 20 ألف ميغاواط من الكهرباء النووية، عبر مشاريع قائمة مثل الوحدتين الثانية والثالثة في محطة بوشهر النووية.
وهذه المشاريع، التي تسارعت وتيرتها بضغط مباشر من أعلى المستويات السياسية في البلدين، تعكس الرغبة في ترسيخ الشراكة النووية الروسية– الإيرانية لتشمل جوانب بحثية وصناعية.
ويأتي الاتفاق الجديد بعد ثلاثة أشهر فقط من تعرض ثلاثة مواقع تخصيب إيرانية لضربات أمريكية وإسرائيلية خلال حرب استمرت 12 يومًا، وهو ما ألقى بظلال من الشك حول قدرة إيران على مواصلة تطوير برنامجها النووي.
لكن طهران ردت بتأكيد أنها لا تسعى لإنتاج أسلحة نووية، رغم تخصيبها لليورانيوم بنسبة 60%، وهي نسبة قريبة من 90% اللازمة لصنع قنبلة نووية.
تزامن التعاون مع روسيا مع تصعيد داخلي في إيران، حيث وقّع 71 نائبًا على رسالة تطالب بمراجعة فتوى المرشد الأعلى علي خامنئي الصادرة عام 2010، والتي تحظر إنتاج الأسلحة النووية.
وبرر النواب موقفهم بتزايد "التهديدات الإسرائيلية"، معتبرين أن امتلاك قنبلة نووية سيشكل رادعًا استراتيجيًا حتى لو لم تُستخدم فعليًا.
وأوضحت الصحيفة أن أحد النواب تساءل بحدة: "لماذا تمتلك معظم القوى العالمية سلاحًا نوويًا بينما تبقى الجمهورية الإسلامية محرومة منه؟" بينما زعم برنامج في التلفزيون الرسمي أن 90% من الإيرانيين يؤيدون تطوير القنبلة النووية.
وتكشف هذه الدعوات الانقسام المتزايد داخل المؤسسة الإيرانية بعد حرب يونيو/ حزيران الأخيرة، بين تيار متشدد يدفع نحو "الخيار العسكري النووي" وتيار إصلاحي يدعو إلى تعليق التخصيب طوعًا والعودة إلى إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كخطوة لإعادة بناء الثقة ورفع العقوبات.
قوبلت الرسالة الإصلاحية التي دعت لتعليق التخصيب بانتقادات لاذعة من المتشددين، حيث وصفها كبار المسؤولين بأنها "رسالة استسلام"؛ حيث هدد رئيس السلطة القضائية غلام حسين محسني إيجئي علنًا بملاحقة الإصلاحيين قضائيًا إذا لم "يتراجعوا عن هذا المسار".
ويعكس الانقسام أزمة هوية داخل النظام الإيراني: هل يواصل المراهنة على الردع العسكري النووي، أم يعود إلى المسار الدبلوماسي رغم الضغوط والعقوبات؟
جاءت التطورات الإيرانية في وقت حساس دبلوماسيًا؛ فقد فشل مجلس الأمن الدولي مؤخرًا في تمرير مشروع قرار تقدمت به كوريا الجنوبية للحيلولة دون إعادة فرض العقوبات على إيران.
ودعمت روسيا، والصين، وباكستان والجزائر المشروع، بينما عارضته بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وهي الدول الثلاث الموقعة على اتفاق 2015.
هذه الدول فعّلت الشهر الماضي آلية "العودة السريعة" (سناب باك)، استنادًا إلى قرار مجلس الأمن رقم 2231، ما يعني إعادة فرض العقوبات خلال 30 يومًا إذا لم تلتزم إيران ببنود الاتفاق.
تعيد هذه الآلية للأذهان القرار رقم 1929 الصادر عام 2010، والذي فرض أقسى عقوبات على إيران وفتح الباب أمام تفسير يسمح بالتصعيد العسكري غير المباشر.
وردت إيران على التطورات بإعلان المجلس الأعلى للأمن القومي تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ووصفت خطوات لندن وباريس وبرلين بأنها "تحركات غير مدروسة".
من جانبه، أكد رافائيل جروسي، المدير العام للوكالة الدولية، أن الجهود الدبلوماسية وصلت إلى "مرحلة صعبة للغاية"، مشيرًا إلى محادثات مرتقبة في نيويورك لمحاولة منع التصعيد.
من الناحية التقنية، ما تزال إيران بعيدة خطوة واحدة عن امتلاك السلاح النووي. اليورانيوم الطبيعي يحتوي على 0.7% من اليورانيوم-235 القابل للانشطار، ويتم تركيزه عبر سلسلة من المراحل: الاستخراج، ثم التحويل إلى "الكعكة الصفراء"، ثم إنتاج غاز سداسي فلوريد اليورانيوم، ثم التخصيب عبر أجهزة الطرد المركزي.
يسمح اليورانيوم المخصب بنسبة 90% نظريًا لإيران بإنتاج ما يصل إلى ثمانية رؤوس حربية نووية خلال أسابيع قليلة، وهو السيناريو الذي يثير قلق الغرب ويمنح المتشددين في طهران ورقة ضغط سياسية.
ويثير إعادة فرض العقوبات الدولية قلقًا اقتصاديًا داخل إيران، لكنه أيضًا يُستغل كأداة تعبئة سياسية؛ حيث أكد نائب الرئيس الإيراني محمد رضا عارف أن بلاده "مستعدة لأي مواجهة مع السلوك القمعي"، مشددًا على أن الشعب الإيراني "ليس من دعاة الحرب، لكنه لن يتردد في الرد الحازم".
وعانت إيران بالفعل من العقوبات التي أعقبت انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018 في عهد دونالد ترامب، لكنها استمرت في توسيع برنامجها النووي لتخصيب اليورانيوم بنسبة تفوق 60%، مقارنة بـ 3.67% التي نص عليها اتفاق 2015.
في الواقع، يتجاوز الاتفاق النووي بين روسيا وإيران كونه مشروعًا لتوليد الكهرباء إلى كونه ورقة جيوسياسية في صراع إقليمي ودولي متشابك؛ وتراهن طهران على موسكو كحليف استراتيجي يوازن ضغوط الغرب، بينما يواصل الداخل الإيراني الانقسام بين خيار الردع النووي وخيار الدبلوماسية.
ومع تصاعد التخصيب إلى مستويات خطرة، وتهديد العقوبات بالعودة عبر آلية "سناب باك"، يصبح الملف النووي الإيراني على حافة انفجار سياسي قد يعيد رسم خريطة العلاقات الإقليمية والدولية.
السؤال الأبرز اليوم: هل يبقى التعاون الروسي–الإيراني في حدود "المحطات الكهربائية"، أم يتحول إلى غطاء يسرّع مسار إيران نحو القنبلة النووية؟