في الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيس منتدى التعاون الصيني-الأفريقي، تكشف الأرقام والسياسات عن مرحلة جديدة من الشراكة بين الجانبين، يتداخل فيها الاقتصاد بالتنمية المستدامة والتكنولوجيا الخضراء، لتتجاوز العلاقة من مجرد تبادل تجاري إلى إعادة صياغة دور أفريقيا في الاقتصاد العالمي ودور الصين في القارة.
ومنذ مطلع الألفية، قفز حجم التجارة بين الصين وأفريقيا من 10.6 مليار دولار عام 2000 إلى نحو 295.6 مليار دولار في 2024، ما جعل بكين الشريك التجاري الأكبر للقارة على مدار 16 عامًا متتالية، بحسب صحيفة "تشاينا ديلي".
وارتفعت حصة الصادرات الأفريقية إلى الصين إلى 13% من إجمالي صادراتها، بعد أن كانت لا تتجاوز 3% مطلع القرن، فيما تضاعفت واردات الصين من أفريقيا 21 مرة، لتبلغ 116.8 مليار دولار العام الماضي، مع صعود المنتجات الزراعية إلى واجهة التبادل التجاري بفضل "القناة الخضراء" التي سهّلت دخول السلع الزراعية المميزة للأسواق الصينية.
انتقل الاستثمار الصيني في أفريقيا من مرحلة البحث عن الموارد إلى بناء سلاسل قيمة محلية؛ فبعد أن لم تتجاوز تدفقات الاستثمار 800 مليون دولار عام 2003، استقرت في السنوات الأخيرة بين 2 و4 مليارات دولار سنويًا، ليصل الرصيد التراكمي إلى أكثر من 42 مليار دولار بنهاية 2023.
ولم يعد التركيز مقتصرًا على التعدين، بل شمل التصنيع، والتكنولوجيا، والصناعات كثيفة العمالة مثل المنسوجات ومواد البناء، وصولًا إلى القطاعات المتقدمة كالطاقة الجديدة والدواء، مع اهتمام خاص بتشغيل العمالة المحلية ونقل المعرفة.
لا تزال الفجوة في البنية التحتية أحد أكبر تحديات القارة، وهنا برزت الصين كلاعب محوري؛ وخلال عقد واحد فقط (2012-2022) تجاوزت قيمة العقود الموقعة مع الشركات الصينية 700 مليار دولار، ونُفِّذت أعمال بقيمة تفوق 400 مليار، تضمنت إنشاء أكثر من 6 آلاف كيلومتر من السكك الحديدية، وشبكة مماثلة من الطرق، ونحو 20 ميناء و80 محطة طاقة.
وأعادت مشروعات مثل خط مومباسا-نيروبي في كينيا وقطار أديس أبابا الخفيف، رسم خريطة الاتصال والتكامل الإقليمي، وأسهمت في تحسين بيئة الاستثمار ومعيشة السكان.
لم يعد التعاون مقصورًا على البنى الصلبة، بل امتد إلى ملفات التنمية المستدامة والتحول الرقمي؛ ففي المجال البيئي، دعمت بكين برامج الطاقة الشمسية والرياح والكهرومائية الصغيرة، وأسهمت في مبادرة "السور الأخضر العظيم" لمكافحة التصحر، وأنشأت مناطق تجريبية منخفضة الكربون.
أما في الجانب الرقمي، فتعكف الشركات الصينية على تحديث شبكات الجيل الخامس، وبناء مراكز بيانات، وتطوير حلول للتجارة الإلكترونية والمدفوعات عبر الهاتف المحمول والمدن الذكية، إلى جانب تعاون في الاستشعار عن بعد والأقمار الصناعية.
وتُظهر هذه المعطيات أن بكين لا تسعى فقط لتعزيز حصتها في السوق الأفريقية، بل لربط القارة بمبادرة "الحزام والطريق" وتوظيف قوتها الصناعية والمالية في صياغة نموذج تنمية بديل للهيمنة الغربية التقليدية.
بالمقابل، ترى حكومات أفريقية في الصين شريكًا قادرًا على توفير تمويل سريع وبناء مشروعات ضخمة، مع استعداد لتجربة صيغ مثل الشراكات بين القطاعين العام والخاص أو عقود البناء والتشغيل والنقل لتخفيف عبء الديون.
رغم الزخم، يطرح التعاون أسئلة حول الاستدامة وشفافية العقود وأثرها على الديون، إضافة إلى الحاجة لتعميق مشاركة الشركات والمجتمعات المحلية حتى لا يتحول الحضور الصيني إلى اعتماد أحادي.
كما أن المنافسة الجيوسياسية بين الصين والقوى الغربية تجعل أفريقيا ساحة اختبار لتوازنات جديدة، ما يتطلب من العواصم الأفريقية صياغة استراتيجيات تضمن مصالحها على المدى الطويل.
في المحصلة، يعكس مسار العلاقات الصينية-الأفريقية رهانًا متبادلاً: بكين تبحث عن أسواق وموارد ومساحة لنفوذها الدولي، وأفريقيا تسعى إلى بنية تحتية واستثمارات وتقنيات تعزز تحولها الاقتصادي.
نجاح هذا الرهان يتوقف على إدارة متوازنة تراعي المصالح المشتركة وتحديات التنمية والحوكمة في القارة.