الكرملين: مشاركة الأوروبيين في مفاوضات أوكرانيا "لا تبشّر بالخير"
يمثل "الليثيوم" أهمية كبرى في الاقتصاد العالمي الحديث، فهو حجر الزاوية في صناعة بطاريات "أيون الليثيوم" التي تُعد بمثابة محرك رئيس لمستقبل الطاقة النظيفة؛ ما جعل القارة الأفريقية محط أنظار العالم وميداناً للمنافسة عليه.
ويرى مراقبون، أنه كلما انخرط العالم في مرحلة جديدة من التحديث والتصنيع، إلا وكانت مقوّمات ومحركّات هذه المرحلة من صلب ثروات أفريقيا الباطنية،..
فمن الفحم الحجري، مرورا بالنّفط، وليس انتهاء اليوم بـ"الليثيوم"، ترسم الثروات الباطنية حُدود النّفوذ الإقليمي والدولي، ويُعيد التنافس عليها صياغة جغرافيات المصالح ويبلور معنى جديدا للقوة الناعمة.
وبحسب المراقبين فإنّ مادّة "الليثيوم" تقع اليوم في قلب الانتقال العالمي نحو الطاقة النظيفة من خلال بطاريات السيارات الكهربائية، وعبر الاستخدامات التكنولوجية والتقنية المتطورة، على غرار الهواتف الذكية والحواسيب المحمولة والكاميرات الرقمية وخوادم الإنترنت.
كما تندرج مادّة "الليثيوم" في منظومة الصناعات العسكرية والمدنية الحديثة التي تعتمد على خفض انبعاثات الكربون في توجه عالمي للانتقال نحو الاقتصاد الأخضر والطاقة النظيفة.
ولئن أخذنا بعين الاعتبار عدد السيارات الكهربائية في العالم اليوم، والاتجاه العالمي للاستغناء عن السيارات المشتغلة بالمحروقات، وعددَ مستخدمي الهواتف الذكية واللوحات الرقمية فإنّ تقاطر القوى الدولية والإقليمية على أفريقيا التي تمتلك 6% من جملة احتياطي العالم من هذه المادة، يصبح أمرا مفهوما ومنطقيا.
ولخصت وزيرة الاقتصاد المغربي ليلى بنعلي المشهد بحقيقته واستحقاقاته حين أشارت مؤخرا إلى أنّ العالم يحتاج لزيادة إنتاج "الليثيوم" بنسبة 300% خلال السنوات الستّ القادمة.
في التفاصيل، يقدّم "المركز الأفريقي لتطوير المعادن" أرقاما في غاية الأهمية تُبرز الإمكانيات المعدنية الهائلة للقارة السمراء؛ فوفق المركز – التابع لمنظمة الاتحاد الأفريقي- فإنّ القارة الأفريقية تلعب دورا مهما في سوق "الليثيوم العالمية"، حيث تمتلك دول رئيسة، منها جمهورية الكونغو الديمقراطية ومالي وزيمبابوي وغانا وناميبيا، احتياطياتٍ إجمالية من الليثيوم تبلغ 4.9 مليون طن، وهو ما يمثل 6% من إجمالي احتياطيات العالم.
وتُعتبر زيمبابوي درّة تاج الدول الأفريقية والعالمية المنتجة للمادة، فلئن احتلت المرتبة السابعة عالميا في إنتاج الليثيوم في 2021، فهي خامس احتياطي على مستوى العالم.

وحسب مصادر أفريقية أخرى فقد كانت زيمبابوي وناميبيا من أفضل 10 دول في إنتاج هذه المادة الأساسية على مستوى العالم، وسط ترجيحات بإمكانية تلبيتهما نحو 20% من الطلب العالمي من هذه المادة خلال السنوات القليلة القادمة.
وعلى الرغم من هيمنة دول مثل "أستراليا" و"الشيلي" و"الأرجنتين" و"بوليفيا" على منظومة إنتاج المادة وحيازتها على مخزون احتياطي هائل من المادة، وتقدمها على جميع الدول الأفريقية المشار إليها آنفا بأشواط كبيرة، إلا أنّ الموقع الاستراتيجي للقارة الأفريقية من حيث القرب البري والجوي والبحري النسبي لأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، والصين، بالمقارنة مع دول أمريكا اللاتينية وأستراليا، مع اعتبار أفريقيا مجالا حيويا للتنافس الاقتصادي والصراع الاستراتيجي وميدان تسابق وتلاحق بين القوى قصد استدرار القوّة الناعمة، كلّها جعلت دول القارة السمراء مقدمة على دول أمريكا اللاتينية.
ويرصد المركز الأفريقي 9 مشاريع كبرى لتعدين الليثيوم في القارة السمراء، موزعة كما يلي: 3 في زيمبابوي، و2 في الكونغو، و1 في كلّ من جنوب أفريقيا، ومالي، وغانا، وناميبيا.
ويُشير مراقبون للشأن الأفريقي إلى أنّ الاستحقاق الاقتصادي الحقيقي الملقى على عاتق الدول الأفريقية المنتجة لهذه المادة الثمينة يكمن في تأميم عملية إنتاج وتعدين هذه المادة داخلها، ومن ثمة تصدير مادة الليثيوم معدّنة بالكامل، والتوقف عن اعتماد منظومة اقتصادية "ريعية" متخلفة تقوم على بيع الليثيوم خاما للدول الكبرى، وإعادة توريده بعد تعدينه في المصانع الصينية والأمريكية والأوروبية.
وبحسب المتابعين ذاتهم، فإن هذا التوجه الاستقلالي بانت ملامحه الأولى من خلال 3 مؤشرات مهمة في انتظار تحولها إلى نزعة أفريقية رسمية عابرة للعواصم، المؤشر الأول متمثل في إقرار زيمبابوي في ديسمبر/ كانون الأول 2022 سياسة حظر تصدير خام الليثيوم، ومواصلتها على هذا النهج على الرغم من الخسائر التي تكبدتها خلال 2023، والتي قُدرت بـ1.8 مليار دولار
المؤشر الثاني تكرس من خلال قرار ناميبيا وقف تصدير إنتاجها لخام الليثيوم قبل معالجته في الداخل وذلك بهدف تحقيق أعلى قدر ممكن من عائدات الصادرات.
أمّا الثالث، فهو التنديد المباشر الذي وجهه رئيس الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسكيدي أثناء مؤتمر الاستثمار في المعادل الأفريقية في جنوب أفريقيا في فبراير/ شباط 2023، للسياسات الصينية في قطاع التعدين في بلاده، ومطالبته إياها بشروط أفضل للاستثمار.
القارئ لخطاب فيليكس تشيسكيدي، الذي مثّل – وفق المصادر الإعلامية الأفريقية- مفاجأة المؤتمر يرصد نقطتين أساسيتين، الأولى هي سيطرة الصين على قطاع التعدين عامة وقطاع الليثوم على وجه التحديد، والثانية التلويح الكونغولي بإمكانية استبدال الشريك الصيني في ظلّ وجود قوى دولية وإقليمية تسعى إلى ترسيخ موطئ قدم لها في القطاع ذاته.
ووفق دراسات علمية متينة في الشأن الأفريقي فعلى الرغم من الأسبقية والسيطرة الصينية على قطاع الليثيوم، فإنّ الغرب بشكل عامّ لن يرضى بالهيمنة الصينية شبه المطلقة على موارد الانتقاليْن في العالم، الطاقي والبيئي.
ويؤكد الباحث أحمد عسكر في دراسته العلمية في موقع "إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية"، أنّ "عمليات تعدين خام الليثيوم تشهد منافسة قوية بين القوى الدولية، لا سيما الولايات المتحدة والصين والهند وأوروبا، في إطار السباق المحتدم حول امتلاك المعادن المستخدمة في صناعة الطاقة المتجددة بأنواعها المختلفة.
وتسعى الصين خلال العقدين الماضيين إلى تعزيز علاقاتها بالدول الأفريقية من أجل الاستحواذ على قطاع المعادن الأفريقي؛ حيث تسيطر على 60% من تعدين المعادن وتكريرها في العالم، لا سيما "الليثيوم" و"الكوبالت" و"النيكل" و"المنجنيز".
والناظر لجغرافيات التوسع الصيني للسيطرة على "خام الليثيوم" الأفريقي يجده متمركزا بشكل أساسي في "زيمبابوي" و"الكونغو الدّيمقراطية".
فخلال 3 أشهر فقط، وبالضبط ما بين ديسمبر/ كانون الأول 2021 ومارس/ آذار 2022 استحوذت 3 شركات صينية على حصص في مناجم الليثيوم في زيمبابوي، فيما أعلنت شركة "زهييانغ هوياوي كوبالت" الصينية عن ضخ استثمارات بقيمة 300 مليون دولار في تطوير مصنع معالجة في منجم "أركاديا" لتعدين الليثيوم في زيمبابوي.
وعلى الرغم من حالة التململ التي أبداها الرئيس الكونغولي من الوجود الصني إلا أنّ الأخير ما يزال يتمتع بنفوذ كبير خاصة في مجال إنتاج الكوبالت والليثيوم، ولا تزال الشركات الصينية تستثمر في الكثير من المشروعات المتعلقة بمناجم الليثيوم وعلى رأسها مشروع الطاقة الخضراء في الكونغو الديمقراطية.
من جهتها، تؤكد مصادر أفريقية مطلعة أنّ واشنطن تسعى إلى محاصرة النفوذ الصيني المستفحل والمتمدد باطراد، حيث سارعت في موفى 2022 إلى توقيع مذكرات تفاهم مع زامبيا والكونغو الديمقراطية لتأسيس مصنع مشترك لمعالجة المعادن.
وتلعب الولايات المتحدة دورا متناميا ومتزايدا في تأمين سلاسل توريد الليثيوم من أفريقيا، حيث تستثمر في مشاريع البنية التحتية والنقل عبر مبادرات مثل ممر "لوبيتو" وهو مشروع بنية تحتية يربط بين أنغولا وزامبيا عبر جمهورية الكونغو الديمقراطية لضمان وصول المعادن الضرورية للتحول الأخضر وصناعة البطاريات وتسهيل نقلها إلى الساحل الأفريقي وتجاوز العوائق اللوجستية.
وحسب مُراقبين، فإنّ المذكرة وممر "لوبيتو" منحا كينشاسا هوامش تحرك معتبرة لتحسين شروطها مع الفاعل الصيني، وما ذلك التنديد العلني للوجود الصيني سوى مؤشر حقيقي على توفّر بيئة سانحة للكونغو الديمقراطية لفرض مقاربتها في ظلّ تنافس دولي وإقليمي منقطع النظير على القارة الأفريقية.
ويعتبر عسكر أنّ التنافس لا تحتكره واشنطن وبيكين فحسب، بل إنّ فاعلين جددا دخلوا على الخطّ على غرار الشركات الأسترالية في مالي، وفي ناميبيا، وفي الكونغو الديمقراطية، كما نشطت شركات هندية وكندية مثل "أتلانتيك لوثيوم" التي تعمل على تطوير أول منجم لليثيوم في غانا.
ويخلص عسكر، إلى أنّ هذه التعددية تؤكد أن القارة باتت ساحة تدافع استثماري دولي يتجاوز البعدين الاقتصادي والطاقوي ليأخذ بُعداً إستراتيجياً صريحاً.