بعد فشل رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو في نيل ثقة الجمعية الوطنية (البرلمان)، رافضا خططها لتقليص الدين المتضخم، تعمقت الأزمة السياسية التي تضعف ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو.
وبات الرئيس إيمانويل ماكرون يجد نفسه أمام مفترق طرق سياسي حاد، مجبرًا على البحث عن مخرج من الأزمة، وسط برلمان دون أغلبية، وخيارات صعبة.
منذ أشهر، يكرر ماكرون أنه لا يرغب في اللجوء إلى المادة 12 من الدستور، التي تمنحه صلاحية حلّ الجمعية الوطنية بعد استشارة رئيس الوزراء ورؤساء البرلمان.
ورغم ذلك، لم يستبعد الرئيس يومًا هذه الأداة. ففي مقابلة مع مجلة "باري ماتش" بتاريخ 19 أغسطس آب، أكد: "لدينا برلمان يعكس انقسامات البلاد، وعلى المسؤولين السياسيين أن يتعلموا العمل معًا".
لكن، بعد سقوط حكومة بايرو، بات المشهد مختلفًا. وزير العدل جيرالد دارمانان، المقرّب من ماكرون، صرّح في 13 أغسطس أنه لا ينبغي استبعاد خيار الحلّ. أما رئيس الوزراء الأسبق إدوار فيليب، فاعتبر أن الحل قد يصبح "حتميا".
ميزة هذا السيناريو أنه يسلط الضوء على البرلمان ويمنح الرئيس هدنة قصيرة، أما مخاطره فهي أنه سيعيد إنتاج المأزق نفسه ببرلمان مجزأ، إلا إذا نجح ماكرون في فرض النظام النسبي قبل الانتخابات.
طرح بعض الساسة سيناريو أكثر جذرية: استقالة إيمانويل ماكرون نفسه والدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة.
جان-فرانسوا كوبيه، الرئيس السابق لحزب الجمهوريين، دعا ماكرون في 26 أغسطس في مقابلة مع صحيفة "لوفيغارو" إلى "إظهار روح ديغولية" عبر إعلان موعد مسبق لاستقالته، ربما بعد الانتخابات البلدية المقبلة.
زعيم "فرنسا الأبية" جان-لوك ميلونشون ذهب أبعد، قائلًا لراديو "فرانس إنتر" إن "المشكلة هي ماكرون نفسه، وعليه أن يرحل ليختار الفرنسيون بين سياسات اجتماعية-إيكولوجية وسياسات ليبرالية".
لكن ماكرون يستبعد ذلك تمامًا، مؤكداً أنه سيبقى "حتى آخر دقيقة من ولايته"، "لا شخصية ماكرون ولا وضع فرنسا ولا التحديات الدولية تسمح بخطوة كهذه" كما يؤكد المؤرخ فينسن مارتيني لصحيفة "ويست فرانس".
خيار آخر مطروح هو الاستعانة بـ"الجبهة الشعبية الجديدة (NFP)" التي تصدرت الانتخابات التشريعية الأخيرة.
حتى الآن، رفض ماكرون هذا المسار مرتين بحجة هشاشة حكومة يقودها مرشح يساري مثل لوسي كاستيه، لكنه قد يعيد النظر بعد سقوط بايرو.
في صفوف اليسار، تزداد الضغوط. مارين تونديليه، زعيمة الخضر، طالبت الرئيس علنًا بتعيين رئيس وزراء من الجبهة الشعبية الجديدة، فيما شدد نائب "فرنسا الأبية" إيمريك كارون على ضرورة احترام نتائج الانتخابات.
كذلك طُرح اسم أوليفييه فور، زعيم الحزب الاشتراكي، كبديل محتمل، لكن العقبات تبقى كبيرة: هل سيصمد أي رئيس وزراء يساري أمام خطر حجب الثقة من حزب النهضة، وحلفائه من الوسط، فضلًا عن الجمهوريين واليمين المتطرف؟
حتى شخصية وسطية مثل برنار كازنوف تبدو فرصها ضعيفة، بسبب رفض اليسار الراديكالي لها، إضافة إلى أن ماكرون ليس مستعدًا للتراجع عن سياساته الاقتصادية الجوهرية، مثل إصلاح التقاعد أو إعانات البطالة.
الخيار الأكثر تقليدية لماكرون هو تعيين شخصية جديدة من قلب معسكره السياسي، على غرار وزرائه السابقين.
أسماء مثل سيباستيان لوكورنو (وزير الدفاع)، جيرالد دارمانان أو كاترين فوتران تتداول بقوة. غير أن فرص هؤلاء في تجنب مصير بايرو أو ميشيل بارنييه تظل محدودة، خاصة مع اختبار أولي صعب يتمثل في تمرير مشروع الموازنة.
احتمال آخر هو الاستعانة بشخصية يمينية مثل برونو ريتايو، على أمل كسب دعم بعض الجمهوريين أو حتى اليمين المتطرف. غير أن ماكرون يدرك أن كسب أصوات من اليمين مقابل خسارة اليسار لن يغير المعادلة كثيرًا.
سقوط بايرو لم يكن مجرد أزمة حكومية عابرة، بل لحظة سياسية فاصلة تضع ماكرون أمام معادلة صعبة: بين المخاطرة بحلّ البرلمان، وفتح الباب أمام انتخابات رئاسية مبكرة، أو المجازفة بتجربة ائتلاف يساري، أو الاستمرار بخيارات تقليدية من قلب معسكره.
وفي كل الحالات، يبدو أن "مرحلة ما بعد بايرو" ستكون اختبارًا قاسيًا للرئيس الفرنسي في الأشهر الأخيرة من ولايته.