تشهد مدينة توري باشيكو، الواقعة في جنوب شرق إسبانيا، واحدة من أكثر لحظات الاحتقان الاجتماعي خطورة في السنوات الأخيرة، وذلك عقب تصاعد أعمال عنف ذات طابع عنصري اندلعت إثر حادث اعتداء فردي، وسرعان ما تحوّلت إلى موجة شغب منظمة استهدفت المهاجرين، لا سيما من أصول شمال أفريقية.
ولا تُقرأ هذه الأحداث بوصفها توترًا محليًا فحسب، بل تُعد مؤشرًا مقلقًا على صعود الخطاب الشعبوي اليميني في إسبانيا، وسط تحولات سياسية وانتخابية حساسة.
وقد أعلنت السلطات الإسبانية اعتقال 10 أشخاص على خلفية أعمال شغب مناهضة للهجرة شهدتها المدينة، الاثنين، حيث استهدفت مجموعات يمينية متطرفة سكانًا من أصول شمال أفريقية، عقب اعتداء تعرض له متقاعد قبل أيام، وفق ما أفادت به صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية.
ورأى مراقبون أن ما جرى لم يكن مجرد رد فعل عفوي، بل جاء ضمن تصعيد منظم تقوده تيارات يمينية متطرفة تسعى إلى استغلال الحوادث الفردية لتأجيج خطاب الكراهية، وفرض أجندات سياسية متشددة، في وقت تشهد فيه البلاد توترًا اجتماعيًا وسياسيًا متزايدًا مع اقتراب الانتخابات المحلية والتشريعية في بعض الأقاليم.
ولم تخلُ الأزمة من حضور سياسي مباشر؛ ففي ذروة التوتر، شارك خوسيه أنخيل أنتيلو، القيادي في حزب "فوكس" اليميني المتطرف، في تجمع داخل المدينة، وصرح علنًا: "نحن لا نريد هؤلاء الناس لا في شوارعنا ولا في بلدنا. سنطردهم جميعًا. لن يبقى منهم أحد".
تصريح عدّه مراقبون تحريضًا مباشرًا على العنف والتطهير العرقي، خاصة أنه جاء وسط صمت نسبي من الحكومة المركزية.
وفي المقابل، حاول عمدة المدينة بيدرو أنخيل روكا، المنتمي إلى حزب الشعب (يمين)، تهدئة الوضع مؤكدًا أن "الوضع تحت السيطرة".
وأضاف: "نحن مدينة متنوعة. ثلث السكان من المهاجرين، معظمهم من المغرب، يعيشون هنا منذ أكثر من عشرين عامًا ويعملون في الزراعة". لكنه دعا في الوقت نفسه إلى منع تجمعات اليمين المتطرف داخل المدينة، وطلب زيادة دائمة في عدد رجال الشرطة على مدار السنة.
وترى الدكتورة كلير بوانسويه، الباحثة الفرنسية المتخصصة في شؤون الهجرة وسياسات الاندماج في "معهد الدراسات السياسية بباريس (Sciences Po)"، في تصريح لـ"إرم نيوز" أن أحداث توري باشيكو تتجاوز الطابع المحلي، وتعكس ما وصفته بـ"نمط أوروبي متصاعد من تسييس الهجرة وشيطنة المهاجرين في الخطاب العام".
وقالت بوانسويه: "ما نشهده في توري باشيكو يشبه تمامًا ما يحدث في ضواحي بعض المدن الفرنسية أو الإيطالية. إنها بيئة اجتماعية هشة، وتراكمات اقتصادية، لكن يتم اختزالها في خطاب معادٍ للمهاجرين، ما يخلق شعورًا زائفًا بأن الحل يكمن في الطرد والرفض، لا في الإصلاح والدمج".
وأضافت الباحثة الفرنسية أن اليمين المتطرف في أوروبا بات يعتمد على "استراتيجية الحوادث المعزولة"، ويحولها إلى "أدوات تعبوية" تخدم استراتيجيات انتخابية قصيرة الأمد، لكنها تعمق الانقسام داخل المجتمعات وتؤدي إلى استقطاب حاد، مشيرة إلى أن "حزب فوكس الإسباني يسير على خطى التجمع الوطني في فرنسا، من حيث الخطاب والاستثمار في مشاعر الخوف".
وحذرت بوانسويه من أن ترك هذه الخطابات دون مساءلة سياسية وإعلامية "سيؤدي إلى تفكك تراكمي في العقد الاجتماعي الأوروبي، وخاصة في المدن التي تضم كثافة مهاجرين وتاريخًا من التعايش، كمدينة توري باشيكو الإسبانية أو سان دوني الفرنسية.
وأضافت أن "الحادث ليس عرضيًا بل مؤشر على مرحلة انتقالية مقلقة في المجتمع الإسباني، حيث تُختزل قضايا الأمن العام في خطاب تبسيطي عنصري"، موضحة أن الربط المتعمد بين الهجرة والعنف يخدم مصالح سياسية ضيقة لكنه يقوّض أسس التعايش السلمي ويغذي الشعور بعدم الأمان حتى بين الإسبان أنفسهم.