في قلب أزمة تتأجج بين قوى عظمى وتتصارع فيها السياسات الأوروبية، يقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على مفترق طرق تاريخي بتصميم لا يلين على نشر قوات فرنسية في أوكرانيا.
قرار الرئيس الفرنسي أثار الجدل على المستويين السياسي والعسكري، حيث يرى ماكرون في هذه الخطوة فرصة لإعادة تشكيل موازين القوة في أوروبا وإبراز فرنسا كقوة استراتيجية مستقلة.
منذ انطلاق هذه المبادرة الجريئة، تصاعدت أصوات أوروبية داعمة لرؤية ماكرون، حيث عبر قادة بعض الدول عن تأييدهم للمسعى الذي يعد بمثابة ردة فعل على النفوذ الروسي المتصاعد.
وفي تصريحات حديثة، أعلن رئيس وزراء ألمانيا أن "الخطوة تتماشى مع حاجة أوروبا لتأكيد وحدتها واستقلالها الاستراتيجي".
وأشار رئيس الوزراء الإيطالي إلى أن "التزام فرنسا يشكل حجر زاوية لتحقيق توازن سياسي يدعم الأمن المشترك للقارة".
كما أكد رئيس وزراء إسبانيا أهمية مثل هذه المبادرات في تعزيز الردع الجماعي وتوحيد الصفوف ضد التحديات الخارجية.
هذا التصعيد العسكري لا يعد مجرد رد فعل على الأزمة الأوكرانية، بل هو إعلان عن عزم باريس على لعب دور ريادي في السياسة الدولية.
وبينما تتأرجح موازين القوى داخل أوروبا، يبقى السؤال قائماً: هل ستثمر هذه الخطوة عن تحول حقيقي في المشهد الأوروبي أم ستشكل قنبلة موقوتة تزيد تعقيد الأزمات القائمة؟
مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، ديميتري بريجع، أكد أن إصرار ماكرون على نشر قوات فرنسية في أوكرانيا يكشف عن رغبته العميقة في إعادة تموضع فرنسا كقوة سياسية وعسكرية فاعلة في أوروبا، وربما أبعد من ذلك.
وبحسب بريجع، تسعى باريس إلى استعادة الدور القيادي داخل الاتحاد الأوروبي، وهو الطموح الذي تعزز بعد خروج بريطانيا من التكتل وصعود الهيمنة الألمانية.
وأضاف بريجع، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن ماكرون يعتمد في سياساته تجاه أوكرانيا على استراتيجية أوسع تهدف إلى تعزيز استقلال أوروبا عن النفوذ الأمريكي، وفي الوقت ذاته إبقاء فرنسا ضمن القوى المؤثرة عالميا.
ولفت إلى أن هذه الخطوة ليست مجرد دعم لكييف، بل هي استثمار محسوب للأزمة الجيوسياسية لإبراز فرنسا كدولة قادرة على التأثير في مجريات الصراعات الدولية.
ويرى بريجع أن ماكرون يغامر بالجنود الفرنسيين لتحقيق طموحات شخصية واستراتيجية على حساب الأمن الداخلي، مشيرا إلى أن هذه الخطوة تحمل في طياتها مخاطر جسيمة؛ إذ تعرض فرنسا لمخاطر خارجية دون ضمانات واضحة، في سبيل تحقيق مكاسب سياسية قصيرة الأمد.
وأشار إلى أن سياسات ماكرون هذه تعكس توجها داخليا قائما على تصدير الأزمات الخارجية لصرف أنظار الفرنسيين عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، مثل الاحتجاجات الشعبية والتضخم المتزايد.
ووفقا لبريجع، فإن هذا النهج يُعرف أكاديميا بـ"سياسة تحويل الأزمات"، وهو أسلوب تلجأ إليه بعض الحكومات حين تواجه ضغوطا داخلية متزايدة، بهدف توحيد الرأي العام خلف أجندة خارجية.
إضافة إلى ذلك، يرى بريجع أن ماكرون يسعى من خلال نشر القوات في أوكرانيا إلى إرسال إشارات واضحة إلى الولايات المتحدة بأن أوروبا، بقيادة فرنسا، قادرة على اتخاذ قرارات أمنية مستقلة دون الاعتماد المطلق على حلف الناتو أو التوجيه الأمريكي.
وذكر أن هذا التوجه ليس جديدا، بل بدأ منذ طرح ماكرون فكرة "الجيش الأوروبي المشترك"، لكنه الآن يحمل مخاطر استراتيجية أكبر، نظرا لإمكانية دخول فرنسا في مواجهة مباشرة مع روسيا، وهو ما قد يعرض الأمن الأوروبي بأسره لخطر التصعيد.
من جانبه، أشار المحلل السياسي والخبير في الشؤون الأوروبية، كارزان حميد، إلى أن الساحة الدولية باتت تفتقر إلى قادة يتمتعون بالكاريزما السياسية والخبرة الدبلوماسية، مشيرًا إلى أن ماكرون مثال واضح لهذا النقص.
وأوضح حميد، في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن الرئيس الفرنسي يسعى إلى فرض نفسه كزعيم أوروبي بارز، رغم أن سياساته الداخلية والخارجية لا تحظى بشعبية واسعة، حيث يرفض أكثر من نصف الفرنسيين نهجه الحالي.
وأضاف حميد أن ماكرون يحاول السير على خطى الزعيم الفرنسي الراحل شارل ديغول، الذي عزز استقلالية فرنسا سياسيا وعسكريا، لكنه يفتقر إلى الكاريزما التي ميزت ديغول، ما أدى إلى تراجع نفوذ باريس على الساحة الدولية.
وأشار إلى أن مواقف فرنسا، التي كانت إحدى القوى الكبرى في الدبلوماسية الناعمة، باتت تتسم بالتناقض منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية والتصعيد في الشرق الأوسط، ما أفقدها ثقة الحلفاء.
ويرى حميد أن ماكرون فقد الكثير من شرعيته السياسية كقائد يمكن الاعتماد عليه في إدارة الأزمات الدولية، حتى بين حلفائه الأوروبيين، حيث بدأت بعض الدول في رفض مواقفه، حتى وإن كانت متوافقة مع مصالحها.
وأوضح أن اقتراحه إرسال 100 ألف جندي أوروبي إلى أوكرانيا يحمل في طياته رسالة تصعيدية خطيرة، قد تدفع روسيا إلى مواجهة مباشرة مع أوروبا، وهو سيناريو كارثي لا يبدو أن ماكرون يدرك عواقبه بالكامل.
وأشار إلى أن العديد من قادة العالم اليوم يتخذون قراراتهم بناءً على اعتبارات شخصية وانفعالية، وهو ما يفسر بعض مواقف ماكرون تجاه روسيا، خصوصا بعد الفتور الذي شاب لقاءه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا.
في ختام حديثه، أكد حميد أن ماكرون يواجه عزلة متزايدة داخل فرنسا وخارجها، خاصة مع تصاعد الاحتجاجات الشعبية ضد سياساته.
وأشار إلى أن الشارع الفرنسي يرفض بشكل قاطع إرسال جنود إلى ساحات القتال في الخارج، لا سيما في مواجهة قوة عسكرية كبرى مثل روسيا، معتبرا أن أي خطوة تصعيدية من ماكرون قد تشعل غضبا شعبيا قد يهدد مستقبله السياسي بالكامل.