قالت صحيفة "لوموند" إن اتهامات "الخيانة" لطالما لاحقت الأحزاب اليسارية في فرنسا، لاسيما فيما يتعلق بتخلّيها عن القضايا الاجتماعية.
وتثير الاتهامات، منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى حقبة الرئيس السابق فرانسوا هولاند، التوترات بين الأيديولوجيا والبراغماتية، حيث الانقسامات الداخلية، والانتقادات العلنية، وفق مقال الصحيفة الفرنسية.
ويقدّم المؤرخ ماثيو فولّا تحليلًا لهذه الظاهرة المستمرة، مسلطًا الضوء على جذورها التاريخية وآثارها.
وأوضح أنه، في 6 ديسمبر/كانون الأول الجاري، دعا الأمين الأول للحزب الاشتراكي (PS)، أوليفييه فور، علنًا إلى "تنازلات متبادلة" بين نواب حزبه ونواب حزب الرئيس إيمانويل ماكرون، لتجنب الشلل المؤسسي بعد الرقابة البرلمانية على حكومة ميشيل بارنييه.
وأثارت هذه الدعوة انتقادات حادة من قِبل النائبة الأوروبية عن حزب فرنسا الأبية (LFI)، مانون أوبري، التي وصفت الخطوة بأنها "خيانة" لملايين الناخبين الذين صوتوا بـ"حماس وأمل" لجبهة الشعب الجديدة.
وأكد المؤرخ أن دافع الخيانة ليس جديدًا على اليسار الفرنسي، مبينًا أنه، في ثلاثينيات القرن الماضي، وصف الحزب الشيوعي الفرنسي (PCF) السياسيين الاشتراكيين بـ"الخونة الاجتماعيين"، وبالمثل، اتهم القسم الفرنسي للأممية العمالية (SFIO)، السلف التاريخي للحزب الاشتراكي، الشيوعيين بالولاء للمصالح السوفيتية خلال الحرب الباردة.
وأشار المؤرخ فولا إلى أن هذه الاتهامات، رغم حدتها العاطفية، غالبًا ما كانت تغطي على انقسامات أيديولوجية وإستراتيجية أعمق داخل اليسار حول كيفية ممارسة السلطة.
ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، واجه اليسار الفرنسي صراعات داخلية بين رؤى متنافسة بشأن الحكم، بينما سعت بعض الفصائل إلى المشاركة البراغماتية مع الهياكل القائمة للسلطة، فيما رأى آخرون أن مثل هذه التسويات تمثل خيانة للمبادئ الاشتراكية.
وتكررت هذه الديناميكية في لحظات تاريخية حاسمة، ما كشف الانقسامات الداخلية لليسار.
وبحسب الصحيفة، قال فولا إنه قبل ثمانينيات القرن الماضي، غالبًا ما واجه القادة الاشتراكيون معارضة داخلية عند توليهم المناصب الحكومية، مستعرضًا شخصيات تعرّضوا للتهميش بسبب ما اعتبر "خيانة"، مثل رئيس الوزراء السابق ألكسندر ميليران، الذي انضم إلى تحالف مع الجنرال جاليفيه خلال قضية دريفوس، وألبير توماس، الإصلاحي في حكومة الاتحاد المقدس أثناء الحرب العالمية الأولى.
وتابع: "بالمثل، قُوبلت ترددات رئيس الوزراء السابق ليون بلوم خلال الحرب الأهلية الإسبانية بانتقادات من معاصريه اليساريين، الذين اتهموه بالاستسلام للمصالح الرأسمالية".
ولفت فولا إلى أنه خلال الجمهورية الرابعة، أضعف انخراط "SFIO" في التحالفات الوسطية الحزب، مبينًا أنه رغم الإصلاحات الاجتماعية التي قادها، تعرض قادة مثل غاي موليه لانتقادات شديدة بسبب قرارات مثيرة للجدل أثناء حرب الجزائر وأزمة السويس.
كما عززت هذه الأحداث الرواية القائلة بأن الحكم يهدد المبادئ الاشتراكية، مما أدى إلى انشقاقات داخل الحزب.
ولفت فولا إلى أن الرئيس السابق فرانسوا ميتران خفف من نفور اليسار من الحكم خلال السبعينيات، رغم استمرار اتهامات الخيانة، موضحًا أن تحوّله نحو التقشف المالي، العام 1983، كان نقطة تحول نحو السياسات الاقتصادية الليبرالية، ما ألقى عليه المنتقدون باللوم في صعود النيوليبرالية في أوروبا.
كما ظهرت هذه التوترات مجددًا خلال رئاسة فرانسوا هولاند، (2012-2017)، عندما أثارت سياساته الداعمة للأعمال غضبًا واسعًا، بما في ذلك من داخل الحزب الاشتراكي نفسه.
وأكد فولا أن اليسار الفرنسي حقق أعظم نجاحاته عندما قدّم إصلاحات جذرية، مثل العمل 35 ساعة في الأسبوع خلال حكومة ليونيل جوسبان.
ومع ذلك، تطلب البقاء في السلطة، غالبًا، تسويات أيديولوجية نفَّرت بعضًا من قاعدته الشعبية.
وخلُص فولا للقول، إن طيف الخيانة المتكرر يبرز تحدي التوفيق بين طموحات اليسار الاجتماعية وواقع ممارسة الحكم.