لم يخرج الحوار السنوي الذي أجراه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الجمعة عن كونه حدثًا سياسيًا وإعلاميًا بالغ التنظيم، لكنه في الوقت ذاته كشف بوضوح عن طبيعة المرحلة التي ترى موسكو أنها تمر بها.
فعلى مدار 4 ساعات ونصف، قدم بوتين قراءة متماسكة للحرب والاقتصاد والسياسة الداخلية، دون أن يفتح بابًا حقيقيًا للمفاجآت، مكتفيًا بإعادة تثبيت السردية الروسية في لحظة دولية تضيق فيها هوامش المناورة.
في صدارة الحوار، أكد بوتين أن القوات الروسية استولت بالكامل على "المبادرة الاستراتيجية"، معتبرًا أن مسار العمليات العسكرية يسير لصالح موسكو، مع توقع تحقيق مكاسب إضافية قبل نهاية العام.
وبشأن المسار السياسي، حمّل بوتين القيادة الأوكرانية مسؤولية الجمود، قائلًا إن الرئيس فولوديمير زيلينسكي يرفض مناقشة أي تنازلات إقليمية، مشددًا على أن الكرة في ملعب أوكرانيا والغرب فيما يتعلق ببدء مفاوضات السلام.
ورغم إشارته إلى إمكانية بحث وقف الضربات على البنية التحتية الأوكرانية، ربط ذلك بإجراء انتخابات في كييف، في موقف يعكس استخدام الملف السياسي الداخلي الأوكراني كورقة ضغط تفاوضية.
ومن الناحية الاقتصادية، أقر بوتين بتباطؤ النمو إلى نحو 1% خلال العام الجاري، لكنه سعى إلى تحييد هذا الرقم بالإشارة إلى تحقيق الاقتصاد الروسي نموًا تراكميًا لافتًا خلال السنوات الثلاث الماضية.
وفي هذا السياق، دافع عن قرارات مالية مثيرة للجدل، وعلى رأسها رفع ضريبة القيمة المضافة، مبررًا ذلك بالإنفاق العسكري الكبير ومتطلبات المرحلة الخاصة التي تمر بها البلاد.
كما أشار إلى خفض سعر الفائدة الرئيس من جانب البنك المركزي، في خطوة تهدف إلى دعم النشاط الاقتصادي، دون إنكار الضغوط القائمة.
وقال مدير مركز GSM للأبحاث والدراسات في روسيا د. آصف ملحم، إن "الكلمة السنوية التي يلقيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في شهر ديسمبر/ كانون الأول تُوجَّه في جوهرها إلى الداخل الروسي بالدرجة الأولى، ولا تستهدف الخارج إلا بشكل ثانوي".
وكشف في تصريح لـ«إرم نيوز» أن "الأسئلة التي تُطرح خلال اللقاء يتم جمعها مسبقًا عبر قنوات متعددة، سواء البريد الإلكتروني أم الرسائل، بما يسمح بالتحضير للإجابة عليها".
وأشار ملحم، إلى أن "الرئيس بوتين لا يمكنه بطبيعة الحال الإجابة عن جميع الأسئلة الواردة من المواطنين نظرًا لكثافتها، لكنه يركز على القضايا الداخلية الأكثر إلحاحًا لدى الشارع الروسي، إلى جانب التطرق لملفات السياسة الخارجية ووضع روسيا العام".
ولفت إلى أن "هذا اللقاء يتسم بطابع عام، ويتضمن أحيانًا أسئلة شخصية مرتبطة بالرئيس نفسه".
وأوضح ملحم، أن "بوتين يسعى من خلال هذا الظهور إلى توجيه رسالة واضحة مفادها أنه على تواصل دائم مع المجتمع الروسي، ومطلع على تفاصيل الحياة اليومية ومشكلاتها، وهو ما ينعكس في طبيعة بعض الأسئلة الخاصة التي تُطرح عليه مباشرة".
وأضاف أن "الانتقال إلى ملف السياسة الخارجية، لا سيما الأزمة الأوكرانية، لم يحمل أمرًا جديدًا لافتًا، إذ أعاد الرئيس الروسي التأكيد على المواقف والشروط المعلنة سابقًا، بما في ذلك حديثه عن الانتخابات في أوكرانيا واستعداد موسكو لضمان أمنها".
من جانبه، رأى المحلل السياسي والخبير في الشؤون الأوروبية كارزان حميد، أن "تزامن خطاب بوتين مع القرار الأوروبي بدعم أوكرانيا بقروض غير مرتبطة بفوائد، بقيمة تقارب 90 مليار يورو، منح الاتحاد الأوروبي هامش مناورة سياسيًا إضافيًا، وأبقى قنوات التواصل مع موسكو مفتوحة دون المساس بالأصول الروسية المجمدة".
وأضاف حميد في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز"، أنه "رغم حديث بوتين المتكرر عن الرغبة في السلام، فإن المعطيات الميدانية تعكس مسارًا مختلفًا، في ظل تسارع التقدم العسكري الروسي مقارنة بتقديرات الدول الغربية"، مشيرًا إلى أن موسكو سيطرت خلال العام الجاري على نحو خمسة آلاف كيلومتر مربع، بما يعكس تفوقًا ميدانيًا واضحًا.
وأشار إلى أنه "رغم تموضع روسيا في موقع قوة، فإنها تواجه في المقابل مؤشرات ضغوط اقتصادية وتساؤلات داخلية بشأن استدامة التعبئة العسكرية، وهو ما دفع بعض العواصم الأوروبية، وعلى رأسها باريس، إلى الدعوة لفتح حوار حقيقي مع موسكو، في ظل صعوبة الاستمرار في حرب استنزاف مفتوحة دون أفق واضح".
وأضاف حميد، أن "خطاب بوتين الأخير حمل تركيزًا أوضح على الخلفيات التاريخية للصراع، لا سيما أحداث عام 2014"، معتبرًا أن "جزءًا من الطرح الروسي يستند إلى رؤية تعتبر أن الغرب يسعى لإضعاف روسيا وتفكيكها، وهي زاوية لا يتعامل معها الغرب بجدية كافية".
ولفت إلى أن "بوتين شدد مرارًا على أن بلاده لا تعتزم مهاجمة أي دولة أوروبية، إلا أن مؤشرات الاستعداد المتبادل للصدام تظل قائمة، خاصة مع اعتراف قادة أوروبيين بإمكانية مواجهة مع موسكو خلال السنوات المقبلة".
وأوضح حميد، أن "الرهان الأوروبي على أوكرانيا كان رهانًا خاسرًا في جوانب عدة"، محذرًا من أن أي انتخابات مقبلة في كييف قد تفرز واقعًا سياسيًا جديدًا يقلب الحسابات الأوروبية رأسًا على عقب.