وفّرت الجولة الخليجية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب ما يمكن اعتباره استعراضاً للتغيرات العميقة التي تمر بها السياسة الخارجية الأمريكية، لا سيما تجاه الشرق الأوسط.
ففي خطابه في الرياض، في 13 مايو/أيار، قال ترامب: "ولّت الأيام التي كان فيها التدخليون الغربيون يطيرون إلى الشرق الأوسط لإلقاء المحاضرات عن كيفية العيش، وكيفية إدارة شؤونكم الخاصة".
وخلال الجولة الخليجية، أعلن ترامب رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، والتقى الرئيس السوري أحمد الشرع.
ولم تحظَ هذه العبارة، آنذاك، باهتمام كافٍ من وسائل الإعلام، إلا أن السفير الأمريكي في تركيا، توم باراك، الذي عيّنه ترامب، في 23 مايو/أيار، مبعوثاً خاصاً إلى سوريا، عاد واستشهد بعبارة ترامب، مضيفاً تفاصيل تبرز أهميتها كمؤشر رمزي على التحولات في السياسة الخارجية الأمريكية.
فقد قال باراك، في 25 مايو/أيار: "لقد انتهى عصر التدخلات الغربية. المستقبل يعود إلى الحلول الإقليمية المبنية على الشراكات والدبلوماسية القائمة على الاحترام"، مضيفاً أن "مأساة سوريا وُلدت من الانقسام، أما ولادتها من جديد فلا بد أن تكون من خلال الكرامة والوحدة والاستثمار في شعبها، ويبدأ ذلك بالحقيقة والمساءلة، والعمل مع دول المنطقة لا بتجاوزها".
توم باراك، وهو ملياردير وصديق قديم للرئيس الأمريكي، يمثل، بشكل جيد، طريقة تفكير ترامب. لكن، لماذا يُبدي ترامب وباراك هذا الحماس لنعي مرحلة التدخلات الغربية في الشرق الأوسط؟ وهل يمكن اعتبار هذا الموقف تعبيراً حقيقياً عن حقبة جديدة في السياسة الخارجية الأمريكية؟ وما الذي قد تعنيه هذه الحقبة الجديدة للمنطقة؟
كراهية الجمهوريين لدور الشرطي العالمي
منذ نهاية الحرب الباردة، تعرضت السياسة الخارجية الأمريكية لانتقادات حادة، خاصة بسبب ما يُوصف بنزعتها الهيمنية، وسعيها إلى فرض نظام عالمي أحادي القطبية. وانضمت إدارة ترامب إلى قائمة المنتقدين لهذا النظام.
في الواقع، سبق الإعلان عن هذا التوجه الجولة الخليجية. ففي 30 يناير/كانون الثاني، قال ماركو روبيو، وزير الخارجية الأمريكي، إن "النظام العالمي الأحادي القطبية قد انتهى"، واعتبر أن هذه النهاية إيجابية.
فمنذ نهاية الحرب الباردة، وسقوط نظام الأقطاب المتعددة، أصبحت الولايات المتحدة أشبه بحكومة للعالم، تتحمل أعباءه. ورأى روبيو أنه من غير الطبيعي أن يهيمن قطب واحد على العالم.
ولم يحظَ كلام روبيو باهتمام كافٍ، رغم أهميته الكبيرة في إظهار التقاطع بين التيار الجمهوري التقليدي وتيار "إعادة أمريكا عظيمة مجدداً" (MAGA) الذي يقوده ترامب.
ومنذ الحرب العالمية الثانية "باستثناء فترة جورج بوش الابن" سعى الرؤساء الجمهوريون إلى تقليص التدخلات الخارجية لتخفيف الأعباء المالية والاقتصادية عن الولايات المتحدة.
ويرى كثير من الجمهوريين التقليديين أن على أمريكا تفادي الانخراط في جميع بؤر التوتر العالمية، والتركيز على المسارح الأهم، وأنه من الخطأ أن تواصل لعب دور الشرطي العالمي على حساب دافع الضرائب الأمريكي.
لذا، فضّل الرؤساء الجمهوريون الضغط على الحلفاء لتولّي مسؤوليات أكبر في الحفاظ على النظام العالمي. ويمكن ملاحظة هذه النزعة البراغماتية في تجارب: دوايت أيزنهاور، وريتشارد نيكسون، وجيرالد فورد، ورونالد ريغان، وجورج بوش الأب، الذين عقدوا تفاهمات مع قوى مناوئة تاريخياً للولايات المتحدة.
ومن الأمثلة: تفاهمات أيزنهاور مع جمال عبد الناصر، ونيكسون وفورد وبوش الأب مع حافظ الأسد، وريغان مع خامنئي وصدام حسين.
وتتضح هذه البراغماتية أكثر عند مقارنتها بالرؤساء الديمقراطيين الذين انتهجوا سياسات تدخلية أزعجت حتى بعض الحلفاء. فالكثير من المؤرخين الأمريكيين يرون أن انتقادات إدارة جيمي كارتر لشاه إيران ساهمت في انهيار نظامه. وكذلك، تُعد سياسات أوباما مثالاً على العواقب الكارثية للتدخل في شؤون الحلفاء.
واكتسب هذا التوجه الجمهوري المناهض للتدخلات زخماً غير مسبوق خلال ولاية ترامب الأولى، ويبدو أنه يزداد حدة في ولايته الثانية، مدفوعاً بتفاقم الأزمات المالية الأمريكية. فالعجز السنوي في الميزانية الفيدرالية يتجاوز 1.5 تريليون دولار، وقد يصل إلى 2.6 تريليون خلال عقد. كما تجاوز الدَّين العام الأمريكي 36 تريليون دولار، ما يعادل 125% من الناتج المحلي.
ويرى كثير من الجمهوريين أن التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط كان اضطرارياً نتيجة انسحاب بريطانيا وفرنسا من المنطقة في الأربعينيات والخمسينيات. لذلك، يُحمّلون الأوروبيين مسؤولية مشاكل المنطقة، كما أشار توم باراك، في 25 مايو/أيار، حين انتقد اتفاق "سايكس–بيكو"، واعتبر أن أمريكا دفعت ثمن مشاكل خلقها الأوروبيون.
من النظرية إلى التطبيق
تؤكد المؤشرات أن واشنطن أعادت النظر في سياستها تجاه الشرق الأوسط، وأنها باتت تفضّل الانسحاب من الملفات الإقليمية وترك المجال للحلول المحلية. وقد يبدو هذا التوجه مرحباً به من بعض مواطني المنطقة، لكنه لا يخلو من تحديات خطيرة.
فمنطقة الشرق الأوسط تعج بالأزمات، والانسحاب الأمريكي قد يزيد من التنافس الإقليمي، لا سيما من قبل قوى غير عربية. ففي سوريا، قررت إدارة ترامب رفع العقوبات، وسحب القوات الأمريكية من الشرق السوري، تاركة مصير البلاد للسوريين ودول الجوار.، إلا أن هذا الانسحاب قد يؤدي إلى مزيد من التأزم بقدر ما قد يتيح فرصاً للحلحلة.
إسرائيل، مثلاً، تعتبر نفسها معنية، بشكل مباشر، بسوريا، ولا تُبدي ثقة بالإدارة السورية الجديدة، كما تواصل عملياتها العسكرية داخل الأراضي السورية.
وآخر الضربات وقعت، في 30 مايو/أيار، واستهدفت قدرات دفاع جوي وبحري في الساحل السوري، بعد يوم واحد من حديث باراك عن "اتفاق عدم اعتداء" بين سوريا وإسرائيل.
الانسحاب الأمريكي قد يدفع أيضاً إلى عودة المواجهات بين إسرائيل و"حزب الله"، وتوسيع النشاط الإيراني في العراق، وسوريا، ولبنان، ما لم تُواجه هذه التحركات بردع فعّال.
كما يُفسر هذا التوجه إعلان ترامب المفاجئ إنهاء العملية العسكرية ضد الحوثيين، ومساعيه لتسوية سريعة مع إيران حول الملف النووي. إلا أن هذه التحركات لم تُوقف تبادل الضربات بين إسرائيل والحوثيين.
وتشير مراكز أبحاث إسرائيلية إلى أن الضربات الجوية غير كافية، وأنه ينبغي بحث التحرك على الأرض، وحتى استهداف إيران.
وهذا ما يجعل المقاربة الأمريكية الجديدة محفوفة بالمخاطر، إذ إنها قد تفتح المجال لتحركات غير منسقة من قبل قوى إقليمية، ما يُعيد المنطقة إلى مربع الصراعات المفتوحة.
الانكفاء الأمريكي عن شؤون الشرق الأوسط قد يكون منطقياً من حيث المبدأ، لكنه محفوف بالمخاطر من حيث التطبيق. فتوقيت التنفيذ، والاستعجال فيه، قد يُعزّزان حالة التنافس بين المحاور الإقليمية ويقودان إلى صراعات طويلة الأمد. وعليه، فإن تحوّل الولايات المتحدة من "شرطي العالم" إلى مراقب عن بعد لن يكون بالسهولة التي قد يتصورها صانعو القرار في واشنطن.