في خطوة تكشف تصاعد التوتر بين موسكو وبروكسل، حذر الكرملين من أنه سيلجأ إلى الملاحقات القضائية ضد الأفراد والدول الأوروبية المتورطة في استخدام الأصول الروسية السيادية المجمدة لتمويل قروض لصالح أوكرانيا.
وصف المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، المقترحات الأوروبية بأنها "سرقة صريحة"، مؤكداً أن روسيا لن تفرق بين المصادرة المباشرة للأصول وبين استغلالها كضمانات مالية، وهو ما اعتبرته موسكو انتهاكاً لحقوقها السيادية.
وذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن هذا التحذير جاء بعد توقيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوماً لتسريع إعادة توزيع الأصول الأجنبية داخل روسيا، في خطوة فسّرها مراقبون بأنها إشارة واضحة لرد محتمل يشمل مصادرة ممتلكات الشركات الغربية العاملة في البلاد.
وبحسب وزير المالية الروسي أنطون سيلوانوف، فقد جمدت موسكو بالفعل أصولاً غربية تعادل في قيمتها الأصول الروسية المحتجزة في أوروبا، في إطار سياسة "المعاملة بالمثل".
يعود الدافع الأساسي وراء تحرك بروكسل إلى تقلص الدعم الأميركي لكييف بعد انتخاب الرئيس ترامب، ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى البحث عن بدائل تمويلية.
وطرحت المفوضية الأوروبية خطة إصدار "قرض تعويضات" بقيمة 140 مليار يورو (165 مليار دولار) لأوكرانيا، على أن يتم السداد فقط إذا دفعت روسيا تعويضات عن الحرب.
وبذلك، تسعى أوروبا لاستخدام الأصول الروسية دون مصادرتها مباشرة، في محاولة لتحقيق توازن بين دعم أوكرانيا وتجنب مواجهة قانونية مفتوحة مع موسكو.
من جانبها، شددت رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين على أن الهدف هو توفير دعم عسكري ومالي مستدام لكييف، بينما اقترح المستشار الألماني فريدريش ميرز مبادرة مشابهة رغم تعرضه لهجوم من اليمين المتطرف في بلاده، الذي يعارض تخصيص أموال دافعي الضرائب لأوكرانيا.
أما بلجيكا، التي تستضيف الجزء الأكبر من الأصول الروسية، فقد أعربت عن رفضها القوي للفكرة؛ بسبب المخاطر القانونية والاقتصادية المترتبة على بلدها.
من وجهة النظر الروسية، تشكل هذه التحركات الأوروبية تهديداً مباشراً لاستقرارها المالي؛ فالأصول المجمدة، البالغة نحو 300 مليار دولار، تمثل ما يقارب نصف احتياطات البنك المركزي الروسي من العملات الأجنبية والذهب.
ولذلك، تنظر موسكو إلى خطة "القرض الأوروبي" كاستيلاء مقنّع على ثرواتها.
هدد نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري ميدفيديف، بملاحقة الأوروبيين "إلى الأبد" في المحاكم الدولية والوطنية، مؤكداً أن روسيا ستسعى للانتقام بجميع الوسائل الممكنة.
ويتوقع خبراء أن تشمل الردود الروسية مصادرة أصول أوروبية داخل روسيا، مثل حسابات الفئة "ج" التي تحتجز أرباح الشركات الأجنبية، أو الاستيلاء المباشر على ممتلكات وأسهم شركات غربية.
وبالفعل، سبق أن استحوذت موسكو على أصول شركات كبرى مثل "كارلسبرغ"، وتلوّح الآن بتوسيع هذه الإجراءات.
إضافة إلى ذلك، قد تعتمد موسكو أسلوباً مشابهاً لأوروبا عبر منح قروض بضمان الأصول المجمدة داخلياً لتمويل ميزانيتها المتعثرة؛ حيث تشير تقديرات أولية إلى أن هذه الحسابات قد تصل قيمتها إلى عشرات المليارات من الدولارات.
لا تقتصر التحذيرات الروسية على البعد القانوني أو الاقتصادي فحسب، بل تمتد إلى مستقبل النظام المالي الدولي.
وأكد بوتين نفسه أن أي خطوة أوروبية لمصادرة الأصول ستؤدي إلى "انهيار المبادئ الأساسية للتعاملات الاقتصادية العالمية" وستلحق ضرراً بالاقتصاد العالمي بأسره.
ويرى الكرملين أن "سرقة" الأصول ستسرّع تفكك النظام المالي القائم على الدولار واليورو، وتدفع نحو تطوير أنظمة دفع إقليمية بديلة، وهو ما قد يعزز عملية تفكيك العولمة المالية.
في هذا السياق، بدأت موسكو بالفعل في تشجيع شركائها التجاريين على تقليص الاعتماد على العملات الغربية، والبحث عن آليات دفع مستقلة، سواء عبر الروبل أو العملات المحلية.
وتعكس هذه التوجهات سعي روسيا لتحصين اقتصادها ضد أي محاولات أوروبية أو أميركية لاستخدام الأدوات المالية كسلاح.
ويرى المحللون أن أوروبا تدخل منطقة رمادية قانونياً وسياسياً، حيث تحاول الموازنة بين دعم أوكرانيا من دون أن تتحمل كلفة مباشرة على ميزانياتها الوطنية؛ لكن هذا النهج قد يفتح الباب أمام موجة من النزاعات القضائية الممتدة لسنوات، ويزيد احتمالية التصعيد الاقتصادي المتبادل.
بهذا، يقف الاتحاد الأوروبي أمام معضلة مزدوجة: من جهة، الحاجة العاجلة لتوفير التمويل العسكري والاقتصادي لأوكرانيا في ظل تراجع الدعم الأمريكي، ومن جهة أخرى، مواجهة خطر الرد الروسي الذي قد يزعزع الاستقرار المالي ويؤدي إلى توترات جديدة مع المستثمرين العالميين.
وفي ظل غياب تسوية سياسية للحرب، يبدو أن الأصول المجمدة تحولت إلى ورقة ابتزاز استراتيجية بيد الطرفين، لتصبح عنواناً جديداً لصراع ممتد يتجاوز حدود أوكرانيا ليطال أسس الاقتصاد الدولي نفسه.