أثارت المجزرة الأخيرة في سيدني والغارات الأمريكية في سوريا تساؤلاً حول ما إذا كان تنظيم "داعش" يحاول إعادة لملمة نفسه أم أنه تحوّل إلى نموذج عنف عالمي محدود النطاق مدفوع بالأيديولوجية والتكنولوجيا.
سعى تنظيم "داعش" مؤخراً إلى إعادة تنظيم صفوفه في موقعين متباعدين جغرافياً، من أستراليا، التي قتل خلالها أب وابنه 15 شخصاً في هجوم استهدف احتفالاً بعيد الأنوار (حانوكا)، ووصفه رئيس الوزراء بأنه "مستوحى من داعش". أما وسط سوريا، فشنت الولايات المتحدة غارات جوية على ما وصفته بعشرات الأهداف التابعة لداعش "انتقاماً"، كما قال وزير الحرب الأمريكي رداً على مقتل ثلاثة أمريكيين في كمين نصبه التنظيم في 13 ديسمبر.
وكتب الباحث برايان كارتر في فبراير 2025 لمعهد دراسة الحرب أن الانسحاب المحتمل للقوات الأمريكية من سوريا هذا العام من شأنه أن "يخاطر بعكس المكاسب التي تحققت بشق الأنفس ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام".
وتشير هذه الأحداث إلى عودة ظهور التنظيم الإرهابي بتهديد منخفض المستوى بعدما سيطر ذات يوم على منطقة بحجم بريطانيا وكان مسؤولاً عن آلاف الهجمات المتشددة خلال العقد الماضي.
وفي ذروة قوته عام 2014، امتد تنظيم الدولة عبر العراق وسوريا، وغطى مساحة تقارب 100 ألف كيلومتر مربع. وكان موطناً لعشرات الآلاف من المقاتلين، كثير منهم أجانب، إلى أن هُزم على يد تحالف دولي عام 2019.
ومع سقوط الخلافة ومقتل زعيم تنظيم الدولة أبو بكر البغدادي، تحول إلى نموذج أقل هيكلة وأصبح هجينا، فقد فرّ بعض قادته إلى صحاري العراق وسوريا، على الرغم من أن بعض الخبراء يقولون إنهم بدأوا في العودة إلى مدن معينة منذ سقوط نظام بشار الأسد، وأصبحت الفروع العالمية أكثر استقلالية، حتى مع احتفاظها بمستوى معين من التنسيق، واستقرت الخلايا النائمة المستوحاة من تنظيم الدولة في الدول الغربية.
اليوم، تشمل أبرز معاقل التنظيم سوريا، حيث لا يزال بضعة آلاف من مقاتليه موجودين. أما في العراق، حيث لا يزال المئات من المتشددين منتشرين، فقد حققت قوات الأمن نجاحاً كبيراً في منع الهجمات المسلحة.
كما ضعفت جماعة أبو سياف في الفلبين، التي تأسست في البداية كمنظمة انفصالية وبايعت التنظيم في عام 2014. مع ذلك، فإن زيارة منفذي هجوم شاطئ بوندي للبلاد قبل ارتكابهم الجريمة ستُسلط الضوء مجدداً على نشاط الجماعات المسلحة في الفلبين. ويعتقد خبراء أن الأب وابنه اللذين نفذا الهجوم ربما تلقيا تدريباً أو معدات خلال زيارتهما للفلبين.
في أفريقيا، أكبر فرع مستقل لداعش هو ولاية غرب أفريقيا والتي تنشط في حوض بحيرة تشاد ويبلغ عدد أعضائها حوالي 3000 مقاتل.
وفي وسط القارة، يُرهب تنظيم ولاية الساحل سكان المناطق الحدودية بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو. وكان هذا الفرع متحالفا سابقا مع تنظيم القاعدة، لكنه بايع التنظيم في عام 2015. كما تستضيف وسط أفريقيا والصومال فروعا للتنظيم، بينما لا يزال وجوده محدودا في ليبيا وشبه جزيرة سيناء.
ويخشى بعض خبراء مكافحة الإرهاب الغربيين أن يُشجع انسحاب القوات الفرنسية والأمريكية من المنطقة تنظيم داعش على تكثيف أنشطته. وتزعم منظمة "بيانات النزاعات المسلحة والأحداث المكانية"، وهي منظمة غير ربحية تُعنى بجمع البيانات، أن داعش يُعد بالفعل "أكثر الجماعات المسلحة عنفا ونشاطا" في المنطقة.
وعلى الرغم من أن وجود تنظيم داعش في شرق أفريقيا يأتي في المرتبة الثانية بعد حركة الشباب، وهي فرع من تنظيم القاعدة، إلا أن مركز الأبحاث "مجموعة الأزمات" يعتقد أن زعيم تنظيم داعش في غرب أفريقيا، عبد القادر مؤمن، سيصبح قريباً شخصية رئيسة في القيادة العالمية للتنظيم، حيث برز الفرع كمركز لوجستي ومالي رئيس لشبكة التنظيم الأفريقية والعالمية.
في المقابل، لا يعد فرع تنظيم داعش في أفغانستان أكبر الفروع ولا حتى أكثرها فتكاً، لكن الجماعة في خراسان ربما تكون الأكثر أهمية اليوم. وفي عام 2021، بالتزامن مع انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، ارتكب مسلح من تنظيم داعش-خراسان مجزرة راح ضحيتها نحو 180 شخصا في هجوم على مطار كابول الرئيس. وفي يناير 2024، قُتل أكثر من 80 شخصا في تفجير مزدوج بمدينة كرمان الإيرانية. وفي مارس من العام نفسه، قُتل نحو 150 شخصا في قاعة حفلات موسيقية قرب موسكو.
بعد سيطرة طالبان على أفغانستان عام 2021، بدأ تنظيم داعش-خراسان بالتركيز على الهجمات الخارجية.
وجاءت نقطة تحول ثانية في يونيو 2024، عندما شنت باكستان عملية واسعة النطاق ضده امتدت حتى عام 2025. ويقول جوستوزي إن باكستان دمرت خلية قيادة واحدة، بينما تعرضت خلية أخرى للهجوم والتفكيك على يد متمردين يقاتلون إلى جانب الدولة الباكستانية.
إلى جانب خطر الهجمات العالمية، يُدقّ ناقوس الخطر بشأن تقلص الموارد المخصصة لمكافحة هذا الخطر تحديدا، خاصة بعدما خفّض الرئيس دونالد ترامب تمويل ميزانية مكافحة الإرهاب التابعة لمكتب التحقيقات الفيدرالي.
وبحلول عام 2025، لم يعد تنظيم داعش يسيطر على مساحات جغرافية واسعة كما في ذروة تمدده بالشرق الأوسط، لكنه في المقابل أعاد إنتاج نفسه كتهديد عالمي مرن، يعتمد نموذجا تنظيميا هجينا يوازن بين اللامركزية الإقليمية والتوجيه المركزي. هذا التحول مكّنه من البقاء فتاكا، وقادرا على التكيف مع بيئات أمنية متغيرة.
ومنذ منتصف 2025، يظهر أن أسرع معدلات نمو التنظيم باتت في أفريقيا، خصوصا في منطقة الساحل. هذا التمدد لا يرتبط فقط بعوامل تقليدية كالهشاشة السياسية والفقر وضعف الحكم، بل يتغذى بشكل متزايد على انسحاب القوات الغربية وتراجع جهود مكافحة الإرهاب؛ ما خلق فراغا أمنيا استثمره التنظيم بسرعة.
وفي الصومال، برز فرع داعش كأحد أكثر الفروع نموا، حيث تضاعف حجمه خلال عام واحد، وتحول تدريجيا إلى عقدة لوجستية ومالية مهمة على مستوى الشبكة العالمية، مع وجود يُقدّر بنحو ألف مقاتل، بينهم عناصر أجنبية من دول أفريقية مجاورة.
وفي جنوب ووسط آسيا، رسّخ تنظيم داعش خراسان موقعه كأخطر أفرع التنظيم، بقوة تتراوح بين 4000 و6000 مقاتل، إضافة إلى عائلاتهم. ولم يكتفِ بالتمركز داخل أفغانستان، بل وسّع عملياته العابرة للحدود، مستقطبا عناصر من آسيا الوسطى، ومنفذا أو مخططًا لهجمات نوعية خارج الإقليم، بما في ذلك أوروبا. هذا التصاعد دفع جهات أممية مختصة إلى اعتباره في مطلع 2025 التهديد الإرهابي الأبرز خارج مناطق النزاع التقليدية.
وفي أوروبا والأمريكيتين، يتجلى الخطر أكثر عبر نمط “الذئاب المنفردة”، المدفوعة بدعاية رقمية مكثفة. فقد بات الفضاء الإلكتروني ركيزة أساسية لاستراتيجية التنظيم، سواء في نشر الأيديولوجيا أو التجنيد أو التحريض، مع تركيز خاص على الفئات العمرية الأصغر سنًا.
وتؤكد ذلك الزيادة الملحوظة في تورط قاصرين في مخططات مستوحاة من داعش داخل أوروبا، شملت محاولات وهجمات مخططة بأسلحة بدائية، ومؤامرات أُحبطت قبل تنفيذها؛ ما يعكس نجاح التنظيم في استغلال المنصات الرقمية للوصول إلى شرائح شديدة الهشاشة.