سلط تقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الضوء على مأساة إنسانية في منطقة الساحل الإفريقي قوامها نزوح 4 ملايين شخص وهروبهم من الحروب والنزاعات المشتعلة في غرب القارة الإفريقية، وهي مأساة تكشف بدورها عن حجم التدخلات الإقليمية والدولية في المنطقة التي تعرف صراعًا دوليًّا محتدمًا بين القوى الاستعمارية القديمة ممثلة في فرنسا خاصة، والقوى الدولية النافذة مجسدة في روسيا.
وقال المدير الإقليمي للمفوضية في غرب ووسط إفريقيا، عبد الرؤوف غنون كوندي، إن "نحو 4 ملايين شخص نزحوا في بوركينا فاسو ومالي والنيجر والدول المجاورة، أي بزيادة تقارب الثلثين مقارنة بـ5 سنوات سابقة". وأضاف أن "عمليات النزوح هذه جاءت نتيجةً لانعدام الأمن، وضعف الوصول إلى الخدمات وسبل العيش، وتأثيرات تغير المناخ".
وتعرف المنطقة أزمات عسكرية مطردة منذ 3 عقود على الأقل، زاد من حدّتها مؤخرًا تغوّل الجماعات المتطرفة وتطور عملياتها العسكرية، إضافة إلى هشاشة الأنظمة الحاكمة وضعف البنية المؤسساتية في تلك الدول؛ ما جعلها مسرحًا وفضاءً للقوى الإقليمية والدولية.
وعقب الانسحابات العسكرية المتتالية للقوات الفرنسية من منطقة الساحل الإفريقي عامة ومن النيجر ومالي وبوكينافاسو على وجه الخصوص، شرعت المجالس العسكرية في الدول الثلاث في إبرام علاقات عسكرية وسياسية جدّ مهمة مع روسيا الاتحادية التي وجدت فراغًا عسكريًّا واقتصاديًّا مواتيًا لها في ظلّ استعصاء الحرب في أوكرانيا وكلفتها الغالية ماديًّا ورمزيًّا عليها.
ووفق الخبراء والمتابعين لمشهد العلاقات الروسية الإفريقية، فإنّ موسكو تعتمد حاليًّا إستراتيجية معقدة ومركبة لتثبيت أقدامها في المنطقة، وتفادي أخطاء القوى الاستعمارية السابقة، وتجنب صراع المصالح مع حليفتها الصين، ولِمَ لا تقاسم النفوذ معها في ظلّ السعي التركي للتوسع في الساحل الإفريقي؟.
ويعتبر الخبراء أنّ موسكو شرعت إستراتيجيًّا في تكريس "إدارة الشراكة مع إفريقيا" وقد أُطلقت في سنة 2023، وتعتمد أساسا على التعامل مع التكتلات الإفريقية الاقتصادية منها والسياسية عوضًا عن التعامل مع الدول بشكل منفرد.
وحسب مصادر دبلوماسية روسية فإنّ الإدارة تم اعتمادها رسميًّا في هيكل وزارة الخارجية الروسية وتم افتتاح بعثة رسمية دائمة لها في العاصمة المالية باماكو، برئاسة الدبلوماسية تاتيانا دوفغالينكو.
ووفق المصادر ذاتها فإنّ الإدارة سينصب اهتمامها وتركيزها حاليًّا على منطقة الساحل عامة وعلى النيجر وبوركينافاسو ومالي تحديدًا، مع السعي إلى إنجاح نموذج الخروج من القوقعة الاستعمارية الفرنسية وتعميمه على باقي دول غرب إفريقيا.
حيث تعتبر موسكو أنّ لديها القدرة والشرعية على وراثة القوى الاستعمارية القديمة، في حدائقها الخلفية، عقب مطالبة الشارع بوجودها ودعوة المجالس العسكرية الحاكمة فيها لـ"تعويض الوجود الفرنسي".
ووفق جهات عسكرية مطلعة، فإنّ روسيا اعتمدت مرحلتين في تثبيت وجودها العسكري في منطقة الساحل، الأولى تتمثل في الولوج عبر "يافطة قوات فاغنر"، وهي قوات روسية غير رسمية ولكنها تخدم أجندة الكرملين بشكل دقيق.
أمّا المرحلة الثانية، فكانت عبر الوجود الرسمي الروسي، وهي مرحلة انطلقت عقب الانسحاب الفرنسي والأمريكي والأممي من هذه الأماكن، وقد تزامنت أيضًا مع سحب قوات فاغنر من المشهد العسكري – بعد تمرد مؤسسها يفغيني بريغوجينا قبل موته في تحطم مروحية قتالية في صائفة 2023- وتعويضها بقوات "فيلق إفريقيا" الذي تم إنشاؤها في ديسمبر/كانون الأول 2023، وبدأت في الخدمة في منطقة الساحل بداية يناير/كانون الثاني 2024.
والمتابع لهذا الفيلق يرصد نشاطًا عسكريًّا كبيرًا له في النيجر ومالي وبوريكينافاسو، ولا سيما في مجال محاربة الجماعات المتطرفة المتمركزة في مالي وفي بحيرة تشاد، خاصة بعد تسليح روسيا لجيوش وقوات هذه الدول بأسلحة متقدمة ومتطورة على غرار مدافع "هاوتزر"، و"معدات التشويش"، ودبابات ومركبات مدرعة.
وقد تكرس هذا المسار العسكري بدعم موسكو لتحالف دول الساحل، وهو تحالف عسكري أمني واستخباراتي يجمع الدول الثلاث في حربها ضدّ الجماعات المتطرفة.
والتزمت موسكو خلال أبريل/نيسان الماضي بمساعدة هذه الدول على الحصول على عتاد عسكري رئيسي وتدريب عالي المستوى لقوة قوامها 5 آلاف جندي.
كما انسحبت الدول الثلاث أيضًا من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس"، الذي يعتبر التكتل السياسي والاقتصادي الرئيسي في غرب إفريقيا، وانسحبت أيضًا من منظمة الفرنكفونية عقب تعليق عضوية الدول الثلاث بسبب "الانقلابات العسكرية" في البلاد و"الوضع غير الدستوري".
وتتحدث الجهات العسكرية المطلعة أنّ لدى روسيا ما بين 1000 و2000 جندي ينشطون في جميع أنحاء مالي، لدعم المجلس العسكري في باماكو، كما نشر "الفيلق الأفريقي" دفعات متتالية من 100 جندي في كل من بوركينافاسو والنيجر بداية 2024. كما أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن بلاده سترسل مزيدًا من الإمدادات العسكرية والمدربين إلى بوركينافاسو.
ووفقًا لتقرير صادر عن مؤسسة "راند" فقد زادت مبيعات الأسلحة الروسية إلى أفريقيا من نحو 500 مليون دولار إلى أكثر من ملياري دولار سنويًّا خلال السنوات الأخيرة.
وتشير التقارير السياسية والإستراتيجية إلى أنّ موسكو شرعت في الاستفادة من المقومات التعدينية النفيسة في تلك المنطقة، وإبرام شراكات واتفاقيات استثمارية مهمة لتعويض الخسائر الكبرى التي تتكبدها جرّاء الحرب في أوكرانيا والعقوبات الأوروبية والأمريكية المفروضة عليها.
وتضيف أنّ شركة "يادران" الروسية من المقرر أن تستثمر في مجال تكرير الذهب في مالي، حيث إنها وضعت حجر الأساس لمشروع مصفاة الذهب، ويهدف الأخير للحصول على معالجة تصل إلى 200 طن من الذهب سنويًّا.
كما تجري موسكو منذ فترة مفاوضات في كل من مالي وبوركينا فاسو، لبناء مفاعلات نووية صغيرة لتوليد الكهرباء، وتحظى الشركات الروسية بوجود في المشاريع الكبرى الخاصة بالبنية التحتية على غرار السكك الحديدية والصناعات المحلية وشبكات الاتصالات وغيرها.
وتسعى روسيا إلى الاستفادة كثيرًا من قطاعات اليورانيوم والذهب والليثيوم وغيرها من المعادن الثمينة والنادرة التي تزخر بها هذه المنطقة، والتي اتضحت أهميتها القصوى مؤخرًا مع الحرب التجارية الصينية الأمريكية، حيث كشفت بكين عن هيمنتها الاحتكارية لمنظومة الاستخراج والتوريد والتصدير الخاصة بالمواد الثمينة والنادرة، وقدرتها على السيطرة شبه الكاملة على منظومة صناعة الهواتف الذكية والحواسيب المحمولة والسيارات الكهربائية، وهي مجالات لا تزال روسيا بعيدة عنها كل البعد.
في المقابل، يطرح الخبراء جملة من التحديات التي قد تحول دون إنفاذ استراتيجيا التوسع الروسية في منطقة الساحل الإفريقي.
أول التحديات يتمثل في هشاشة الأنظمة السياسية وفي ضعف البنية المؤسساتية لها؛ ما يسمح بحصول الانقلابات العسكرية وبتكرارها بأشكال مختلفة، وهو أمر يضع الوجود الروسي موضع التساؤل، ولا سيما أنّه بنى سردية وجوده على تعويض الوجود الاستعماري القديم وبالتالي فقد صار رهينة وجود مجالس عسكرية تنتمي لنخبة سياسية وعسكرية جديدة ترفض الاستعمار.
ويشير الخبراء إلى أنّه طالما أنّ الوجود الروسي مقتصر على الجانب العسكري والسياسي ولم يتغلغل في الجوانب الاقتصادية والاستثمارية العميقة ولم ينخرط في سياسة إقراض بنوكها المركزية، فإنّ الوجود الروسي سيبقى رهين طبيعة القيادات الموجودة في المجالس العسكرية. على عكس الوجود الصيني الذي نجح في التغلغل في البنية الاقتصادية وفي الجسم الاستثماري وصار متحكمًا في المنظومة الاقتصادية من خلال الديون الصينية الكبيرة المتخلدة لدى هذه الدول الوليدة.
ثاني التحديات يكمن في الجماعات المتطرفة في منطقة الساحل وعلى رأسها جماعة الطوارق، والتي باتت اليوم، تحارب لا بعنوان محلي صرف في مالي، بل صارت امتدادًا لأوكرانيا ولواشنطن، وباتت تستهدف الوجود الروسي رأسًا، وذلك عقب التدريبات والإسناد المالي والعسكري والاستخباراتي واسع النطاق الذي حظيت به من كييف وحلفائها.
أما ثالث التحديات فيتمثل في حجم الفساد المالي والإداري الذي تعرفه هذه الدول، وتحولها إلى دول فاشلة، اقتصاديًّا وتنمويًّا، وهو فشل واضح، قد يفتح المجال إلى ثورات وانتفاضات جديدة، تأتي على المجالس العسكرية وعلى داعميها الدوليين أيضًا.
رابع التحديات، هو التنافس الإقليمي والدولي، الموجود في منطقة الساحل الإفريقي، فالرجل الفرنسي المريض له الكثير من الورثة الذين يتنافسون بقوة وجدية مع الوريث الروسي، فالصين لها جزء كبير من التركة في صيغتها الاقتصادية ولكنها أيضًا بدأت في التوسع عسكريًّا وأمنيًّا، وتركيا أيضًا وجدت في مالي والنيجر وبوريكينافاسو سوقًا معتبرة لتسويق صناعاتها العسكرية، وفضاءً فسيحًا للتمدد تحت عناوين عديدة.
في المحصلة، يبدو أنّ التحالف الأمني بين دول الساحل وروسيا يحتاج لمقومات لإثباته وتأمين ديمومته، ولا سيما أنّه بات موضع استهداف مباشر من قبل أعداء الساحل وهم كثر، ومن مناوئي موسكو وهم عديدون أيضًا.