تتصاعد الأزمة السياسية والدستورية في بولندا حول شرعية الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وسط تحذيرات من خبراء سياسيين وقانونيين فرنسيين من أن الأزمة تكشف عن هشاشة القضاء البولندي، واستمرار تأثير التيار القومي المحافظ على المؤسسات، ما يهدد استقلال القضاء ويدفع البلاد نحو أزمة دستورية عميقة.
ويرى محللون فرنسيون أن الأزمة تجاوزت الطعن في نتائج الانتخابات لتصبح انعكاساً لصراع أوسع بين معسكرين، الأول يمثله التيار القومي المحافظ الذي يسعى لتطويع مؤسسات الدولة لصالحه، والثاني يتبنى الرؤية الليبرالية الأوروبية التي تحاول استعادة سيادة القانون.
وقال الخبير السياسي الفرنسي بيير دوسارت، من المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، لـ"إرم نيوز" إن تسييس القضاء في بولندا خلال السنوات الأخيرة هو السبب الرئيس للأزمة الراهنة، مشيراً إلى أن التيار القومي المحافظ أعاد تشكيل المحكمة العليا وفق مصالحه وأنشأ غرفاً استثنائية لتطويع قرارات الدولة، معتبراً أن ذلك يمثل سابقة خطيرة داخل الاتحاد الأوروبي.
وأضاف دوسارت أن ما يحدث يهدد بولندا على المستوى الأوروبي لأنه يقوض أحد أسس الاتحاد وهو سيادة القانون.
من جانبها، قالت الباحثة الفرنسية كلارا لوغران من مركز "تيرابوليس" للدراسات السياسية لـ"إرم نيوز" إن الأزمة ليست فقط نزاعاً انتخابياً بل انعكاس لصدام عميق بين نموذجين لدولة: دولة قومية ترى في المؤسسات أداة للسيطرة، ودولة أوروبية تسعى إلى توازن مؤسسي واحترام سيادة القانون.
بدوره، اعتبر الخبير القانوني الفرنسي ميشال فرنو، المختص في القانون الدستوري الأوروبي، أن البرلمان البولندي في مأزق دستوري حرج، خاصة مع اقتراب موعد أداء اليمين للرئيس المنتخب في 6 أغسطس/ آب.
وأشار في حديث لـ"إرم نيوز" إلى أن تنصيب رئيس محل نزاع قضائي سيعمق الأزمة، خصوصاً أن المحكمة العليا نفسها محل طعن، مبينا أن تأجيل أداء اليمين قد يكون حلاً مؤقتاً لتفادي أزمة شرعية أكبر.
في المقابل، اتهم النائب في الائتلاف الحاكم رومان غيرتيخ السلطات بنقل الأصوات لصالح المرشح القومي كارول ناوروكي، داعياً إلى إعادة فرز شامل وتعليق مراسم التنصيب.
أما وزير العدل البولندي آدم بودنار فأعلن من جهته تشكيل فريق للتحقيق في المخالفات الانتخابية، مؤكداً أن كل موقع يُشتبه في حدوث مخالفات فيه سيخضع للتحقيق.
وتنتظر البلاد قرار المحكمة العليا بخصوص الطعون المقدمة ضد الانتخابات التي أجريت في 1 يونيو/ حزيران، والتي فاز فيها ناوروكي بنسبة 50.89% بدعم من حزب "القانون والعدالة"، متفوقاً على مرشح التحالف الأوروبي الحاكم رافال تشاسكوفسكي.
ورغم إعلان النتائج الرسمية، قُدم أكثر من 56 ألف طعن ضد العملية الانتخابية، رفضت المحكمة غالبية هذه الطعون، لكنها أمرت بإعادة الفرز في 13 مركز اقتراع، كشفت بعضها عن وجود أخطاء في احتساب الأصوات.
وتعقدت الأزمة مع استمرار الجدل حول شرعية الجهة القضائية التي ستفصل في الطعون، إذ إن القسم المكلف بذلك ضمن المحكمة العليا تم تأسيسه خلال فترة الحكومة القومية السابقة، واعتبرته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في 2023 هيئة غير مستقلة وغير نزيهة.
وأقر رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك بعدم نزاهة هذا القسم، لكنه شدد على أن المحكمة العليا تبقى الجهة الوحيدة المخولة للبت في شرعية الانتخابات، ولا يمكن تجاوزها أو استبدالها بأي جهة أخرى.
في المقابل، يرفض رئيس البرلمان شيمون هولوونيا وبعض قادة الائتلاف الحاكم فكرة تأجيل أداء القسم الرئاسي، ما ينذر بصدام مؤسسي محتمل خلال الأيام المقبلة.
وفي ظل تمسك الأغلبية بالمسار الدستوري، ومطالب المعارضة بتأجيل المراسم حتى حسم الطعون، تبقى الأنظار متجهة إلى قرار المحكمة العليا، باعتباره نقطة فاصلة قد تحدد مستقبل الديمقراطية البولندية.