أعلنت بولندا حالة التأهب القصوى، بعدما بلغت الهجمات الروسية على أوكرانيا مستوى غير مسبوق من العنف، واجتاحت سماء كييف وخاركيف ومدنا أخرى الصواريخ والطائرات المسيرة.
وأوضحت قيادة العمليات للقوات المسلحة البولندية أن نشر أنظمة الدفاع الجوي والطائرات المقاتلة جاء لحماية المناطق الحدودية المعرضة للخطر، في خطوة بدت كإنذار مبكر بأن شظايا الحرب قد تتسرب إلى دول الجوار.
وفي ظل هذا التصعيد، يطرح المراقبون سؤالًا بات يفرض نفسه بقوة: هل تقترب بولندا من ساعة الصدام المباشر مع موسكو، أم ستظل الحرب حبيسة الأراضي الأوكرانية؟
وأكد خبراء أن بولندا تسعى لتعزيز مكانتها كطرف رئيسي في مواجهة روسيا، مستندة إلى إرث تاريخي وخطاب قومي يتحدث عن «حقوق تاريخية» في غرب أوكرانيا ودول الجوار، خاصة بعد انسحابها من اتفاقيات حظر الألغام وتكثيف تسلحها ضمن استراتيجية الدفاع الأمامية لحلف «الناتو».
وأشار الخبراء، في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز"، إلى أن هذه التحركات تفتح الباب لاحتمال صدام مباشر مستقبليًّا، في ظل تكرار تصريحات رسمية تمهد لفكرة التوسع أو ضم مناطق حدودية.
وأضافوا أن روسيا من جانبها تستخدم الهجمات الجوية كورقة ضغط على كييف لإجبارها على التفاوض، لكنها في الوقت نفسه تتحاشى استفزاز «الناتو» بشكل مباشر.
ورأى الخبراء ، أن التصعيد الراهن لا يعد تهديدًا فعليًا لجيران أوكرانيا إلا إذا تورطت تلك الدول عسكريًّا، خاصة وأن موسكو تواصل سياسة «الصبر الاستراتيجي» مع مراقبة تطورات الدعم الغربي والصناعات العسكرية الأوروبية الداعمة لأوكرانيا.
قال د. آصف ملحم، مدير مركز "JSM" للأبحاث والدراسات، إن بولندا لا تُخفي طموحاتها التوسعية ذات الطابع الاستعماري والإمبريالي، مشيرًا إلى أن هذه الأطماع تظهر في عدة تصريحات رسمية تتحدث عن "حقوق تاريخية" لبولندا في كل من ألمانيا، وليتوانيا، وبيلاروسيا، وحتى غرب أوكرانيا.
وأوضح ملحم، في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز"، أن بولندا غالبًا ما تستخدم مصطلح «الكريسي الشرقي» في إشارة إلى المناطق الواقعة خارج حدودها الحالية، مثل أجزاء من ليتوانيا وبيلاروسيا وغرب أوكرانيا، حيث تطلق على البولنديين المقيمين هناك تسمية «الكريسيين» أو أحيانًا «الزابوليين»، وهي تعبيرات ذات طابع قومي.
وأشار د. آصف ملحم، إلى أن بولندا تُعد من أكثر الدول الأوروبية تسلحًا خلال العقدين الأخيرين، ما يجعلها الدولة الأقرب لاستراتيجية الولايات المتحدة كخط دفاع أمامي في مواجهة روسيا ضمن منظومة حلف شمال الأطلسي «الناتو».
وأضاف أن الحلف رسم، منذ مطلع عام 2023، خطوطًا دفاعية ثلاثية، الأولى في أوكرانيا، والثانية في دول أوروبا الشرقية مثل بولندا ورومانيا، والثالثة في أوروبا الغربية، وتحديدًا ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.
وأكد ملحم أن بولندا تستعد لسيناريو المواجهة مع روسيا، وقد انسحبت بالفعل من اتفاقية حظر الألغام المضادة للأفراد، التي كانت موقعة مع دول البلطيق وفنلندا وأوكرانيا.
وقال ملحم إن القصف الروسي يطال أحيانًا المناطق الغربية من أوكرانيا القريبة جغرافيًّا من بولندا، لكنه استبعد وجود نية مباشرة لدى روسيا لمهاجمة بولندا في الوقت الحالي، مؤكدًا أن موسكو لا ترغب في استفزاز «الناتو»، وتفضل استنزاف الحلف عبر «البوابة الأوكرانية» من خلال الدعم العسكري الغربي المتواصل لكييف.
وتابع ملحم: "منذ بداية العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، بدأت وسائل الإعلام البولندية تشير بشكل متكرر إلى مدينة لفيف على أنها مدينة بولندية، رغم أن سكانها خليط من البولنديين والأوكرانيين والروس، مما يعكس أطماعًا بولندية تاريخية قائمة بالفعل".
وفي ما يخص إمكانية حدوث صدام مباشر بين روسيا وبولندا، قال ملحم إن ذلك "احتمال وارد، ولكن يصعب تحديد توقيته أو طبيعته"، لافتًا إلى أن هناك استعدادات كبيرة في بولندا، وكذلك في دول أوروبا الشرقية، لمواجهة محتملة مع موسكو.
وأضاف أن الجيش البولندي يُعد من الجيوش القوية في المنطقة، ويبدو أنه يتحضر بشكل منهجي لمثل هذه المواجهة، خاصة في ظل تصريحات مسؤولين بولنديين، من بينهم وزير الخارجية، حول الرغبة في ضم المناطق الغربية من أوكرانيا إلى الأراضي البولندية.
وأشار إلى أنه لا يوجد موقف رسمي واضح حتى الآن، لكن هذه التصريحات تتكرر، ما يفتح الباب لاحتمال وجود اتفاق سري بين الرئيس البولندي ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
وذكّر ملحم باتفاق سري تاريخي تم توقيعه عام 1920 بين بولندا وأوكرانيا، تضمن تبادل اعترافات بالسيطرة على أراضٍ داخل أوكرانيا، معتبرًا أن "التاريخ يعيد نفسه اليوم في عام 2025".
وتابع: "روسيا صرحت أكثر من مرة بأن بولندا مدينة بحدودها الحالية للاتحاد السوفيتي السابق، ما يجعل احتمالات الصدام بين البلدين واردة جدًّا في المستقبل القريب خاصة في ظل التوترات المتصاعدة وسيناريوهات ما بعد الحرب في أوكرانيا".
من جانبه، قال بسام البني، المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية، إن الهجمات الروسية الحالية لا يمكن اعتبارها تهديدًا لدول الجوار، إلا في حال تدخلت هذه الدول عسكريًا أو أمنيًّا في الأزمة الأوكرانية.
وأشار البني، في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز"، إلى أن روسيا تخوض حربًا تهدف بالأساس إلى إبعاد الصواريخ النووية عن حدودها، في ظل ما وصفه بـ«التمدد التدريجي لحلف الناتو نحو الشرق» عبر 5 موجات متتالية.
وأضاف البني أن تصعيد الهجمات الجوية الروسية خلال الفترة الأخيرة يُعد بمثابة ورقة ضغط على أوكرانيا لدفعها نحو الجلوس إلى طاولة المفاوضات والقبول بالشروط الروسية التي طرحتها موسكو عام 2021.
وفيما يتعلق بدول البلطيق وبولندا وليتوانيا وإستونيا، شدد الخبير السياسي على أن ما يتم تداوله عن تهديد روسي لهذه الدول ليس إلا "رهابًا ذاتيًّا اختلقته تلك الدول"، بهدف تعزيز وجودها تحت المظلة الأمريكية والحصول على مزيد من الدعم والمساعدات العسكرية والاقتصادية من واشنطن.
وأشار البني إلى أن هناك تصريحات أوكرانية وأوروبية مؤخرًا تفيد بوجود مصانع لإنتاج الطائرات المسيرة داخل أراضي بعض الدول الأوروبية تُستخدم لصالح أوكرانيا، محذرًا من أن هذه المصانع قد تتحول إلى "أهداف عسكرية" في المستقبل طالما أنها تدخل بشكل مباشر في دعم القدرات القتالية الأوكرانية.
وأوضح أنه على الرغم من هذه التطورات إبا أن روسيا لا تزال تعتمد على سياسة "ضبط النفس والصبر الاستراتيجي"، في انتظار ما ستؤول إليه المعطيات السياسية والعسكرية في المرحلة المقبلة.