لم يكن توغّل 19 مسيّرة يشتبه بأنها روسية في الأجواء البولندية مجرد حادث عابر في سماء شرق أوروبا، بل تحوّل إلى لحظة فارقة تعيد رسم خطوط التماس بين حلف الناتو وروسيا.
ووضعت الواقعة، الحلف أمام سؤال وجودي: "كيف يوازن بين الردع العسكري وتجنّب الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع موسكو؟".
وفي أعقاب الحادثة، سارعت بولندا إلى طلب تفعيل المادة الرابعة من معاهدة شمال الأطلسي، ما أدى إلى اجتماع طارئ لمجلس الحلف خرج برسالة تضامن قوية مع وارسو، وإدانة لـ "السلوك المتهور" لموسكو.
وحرص الأمين العام لحلف الناتو، مارك روته، على طمأنة بولندا بأن "كل شبر من أراضي الناتو محمي"، مشيدًا بتفعيل الدفاعات المشتركة من مقاتلات بولندية وهولندية وإيطالية، إلى جانب بطاريات باتريوت ألمانية.
وخلال الساعات الماضية، توزعت ردود الفعل الأوروبية بين الإدانة والتصعيد السياسي؛ إذ وصفت أورسولا فون دير لاين الحادث بأنه "انتهاك غير مسبوق"، داعية إلى فرض عقوبات إضافية على موسكو، فيما اعتبره إيمانويل ماكرون "تصعيدًا متهورًا" يستوجب ردعًا سياسيًا صارمًا.
وعبّر رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر عن قلقه العميق، مؤكدًا أن السلوك الروسي يهدد الاستقرار الأوروبي، في حين شدّد أنطونيو كوستا، رئيس المجلس الأوروبي، على أن "أمن بولندا هو أمن أوروبا"، في رسالة تضامن واضحة.
وقال المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية نبيل رشوان، إن "الناتو لن يتدخل عسكريًا ضد روسيا"، مذكرًا بحوادث سابقة حين سقطت مسيّرات وتسببت في مقتل مواطن بولندي، إضافة إلى حوادث مماثلة في بلغاريا ورومانيا ومولدوفا، ورغم أنها دول أوروبية، لم يتخذ الحلف أي خطوات حاسمة.
وأضاف رشوان لـ"إرم نيوز"، أن "ما يجري حاليًا لا يتعدى تفعيل المادة الرابعة، أي عقد اجتماعات للتشاور وتبادل وجهات النظر حول ما إذا كانت هذه الحوادث مقصودة أم مجرد صدفة".
ورأى أن "موقف الناتو يبدو سلبيًا، وأنه يخشى الاصطدام بروسيا، خاصة أنه لم يتكبّد عمليًا أي خسائر خلال الحرب، بل استغلها للتخلص من أسلحته القديمة المخزنة عبر منحها لأوكرانيا، في حين يجدد ترسانته العسكرية".
وأشار رشوان، إلى أن دول أوروبا ما زالت تستورد منتجات بترولية روسية عبر الهند، حيث تشتريها نيودلهي بأسعار زهيدة ثم تعيد بيعها لأوروبا، وأبرزها سلوفاكيا والمجر اللتان تستوردان النفط والغاز من روسيا.
واعتبر أن "أقصى ما يمكن أن يفعله الناتو هو عقد اجتماعات للتشاور حول مدى تعمد روسيا إسقاط المسيّرات، فيما ربما تسعى موسكو إلى جسّ نبض الدفاعات الأرضية للحلف، ومن غير المستبعد أن تشهد جمهوريات البلطيق أحداثًا مماثلة".
من جهته، قال المحلل السياسي والخبير في الشؤون الأوروبية كارزان حميد، إن "الدول الغربية تبذل منذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا جهودًا لتوحيد مواقفها وإجراءاتها ضد موسكو، إلا أن هذه الجهود لم ترتقِ بعد إلى المستوى الذي يضمن لأي دولة في الناتو الشعور بالأمان الكافي لتفعيل المادة الخامسة من ميثاق الحلف في حال تعرضها لهجوم خارجي".
وأوضح حميد لـ "إرم نيوز"، أن "روسيا تعلم أن المادة الخامسة لا تُفعَّل بسهولة أو بشكل متساوٍ بين الدول الأعضاء، وأن النظام الروسي يتميز بالتكتم الشديد فيما يتعلق بالمعلومات والخطط، وما يظهر في العلن لا يمثل سوى جزء صغير من الصورة الكاملة".
وتنص المادة الخامسة من ميثاق الناتو، على أن أي هجوم مسلح ضد دولة عضو يُعد هجومًا على جميع الأعضاء، وبالتالي يحق لهم الرد الجماعي، بما في ذلك باستخدام القوة المسلحة.
ولفت حميد، إلى أن "فهم طبيعة القرار الروسي يتطلب فهم مزاجية قادته، وعلى رأسهم فلاديمير بوتين، الذي لم يعد ذلك الضابط الاستخباراتي السابق أو السياسي المعتدل في تسعينيات القرن الماضي".
وأشار إلى أن "بوتين يتبنى استراتيجية تتغير كل عشر سنوات، يظهر فيها بشكل جديد، وأن هذا التحول تغذيه التدخلات الغربية المستمرة في شؤون الدول الحليفة لموسكو".
ورأى حميد، أن "بوتين يتعامل الآن بالمنطق ذاته الذي تتبعه الدول الأوروبية: كلما اقتربتم، اقتربنا أكثر من حدودكم. في إشارة إلى تبادل الرسائل الاستراتيجية على حدود الناتو".
ورأى أن "الهجوم بالمسيّرات، رغم احتمالية أن يكون سببه خللًا تقنيًا أو ضعفًا في الإدارة، يمثل فشلًا استخباراتيًا بولنديًا، ورسالة مبطنة بأن قدرات موسكو في مجال الطائرات المسيّرة قد تطورت بشكل كبير، وعلى الأوروبيين أخذ ذلك بعين الاعتبار".
وأضاف حميد، أن "وارسو تُعد اليوم مركز الإمداد العسكري الرئيسي لأوكرانيا، وأول عضو في الناتو بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، ما يجعلها في مرمى الرسائل الروسية".
وختم بالقول إن "موسكو غير قادرة حاليًا على فتح جبهة ثانية، لأن ذلك قد يؤدي إلى نهايتها الحتمية؛ لهذا تسعى لتقليل اعتمادها على الأفراد لصالح الطائرات المسيّرة، بما يسمح بتوزيع قواتها المدربة، والتي يبلغ عددها نحو 1.3 مليون جندي، على جبهات مختلفة".