لم تكن الحدود الممتدة بين روسيا وفنلندا سوى واحدة من أكثر الخطوط الأوروبية هدوءًا لعقود طويلة، لكن هذا الهدوء تبدد سريعًا بعد أن اتخذت هلسنكي قرار الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي في أبريل 2023.
ومنذ هذه اللحظة، تحولت الجغرافيا الشمالية إلى ساحة مشحونة بالتوجس، خاصة بعد الحشد والتعزيزات العسكرية على الحدود الروسية، والتي تعد روسيا أن أمنها الاستراتيجي أصبح تحت تهديد مباشر.
وعلى وقع التوترات الأقليمية، لم يتردد أليكسي تشيبا، النائب الأول لرئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الدوما الروسي، في تحميل فنلندا مسؤولية التصعيد على الحدود.
وأكد أن هلسنكي وضعت نفسها في موقع المواجهة عندما انضمت إلى الناتو، إذ أصبحت ملزمة - بحسب تعبيره - بنشر أسلحة موجهة ضد روسيا وتنفيذ المهام التي يفرضها الحلف، وأن هذا لم يعرض فنلندا للخطر فقط، بل خلق بؤر توتر لم تكن موجودة من قبل.
الرد الروسي لم يتوقف عند التصريحات، بل تضمن مؤشرات على استعدادات عسكرية ميدانية، في وقت رفعت فيه فنلندا بدورها منسوب إنفاقها الدفاعي ووطدت ارتباطها بالبنية العسكرية للناتو.
ووفقًا للمراقبين، تنذر هذه التفاعلات المتبادلة بتوازن هش، حيث يكفي خطأ واحد أو حادث عرضي لتتحول حالة الحذر إلى مواجهة مباشرة، وهو ما يحذر منه الخبراء العسكريون باعتباره أكبر تحدٍ أمني في شمال أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة.
وفي السياق، يرى مدير مركز GSM للأبحاث والدراسات في روسيا، الدكتور آصف ملحم، أن أمريكا تعمل على توتير العلاقات بين روسيا وفنلندا بهدف فتح جبهة جديدة من المواجهة مع موسكو، في إطار استراتيجية أوسع تسعى إلى إنهاك روسيا عبر الحروب الجانبية.
وأوضح ملحم في تصريحات لـ"إرم نيوز" أن هذه السياسة ليست جديدة، إذ اعتمدتها واشنطن منذ تسعينيات القرن الماضي عبر إشعال التوترات في الشيشان وجورجيا وآسيا الوسطى، وهي مناطق ملاصقة لروسيا، وكان الهدف الدائم منها استنزاف موسكو وإجبارها على تقديم تنازلات في ملفات دولية كبرى.
وأشار إلى أن فنلندا بدأت مؤخرًا في طرح سيناريو مشابه لما جرى في "الحرب الفنلندية السوفيتية" مطلع القرن الماضي، عندما تنازلت فنلندا عن أراضٍ للاتحاد السوفيتي مقابل السلام، في محاولة لإعادة إنتاج التجربة مع أوكرانيا.
ولفت ملحم إلى أن النشاط العسكري على الحدود الشمالية الغربية مع فنلندا ما زال محدودًا، لكنه يتركز في الطيران المسير التجسسي وإنشاء قواعد جوية، وهو ما تلجأ روسيا إلى تعزيز وجودها العسكري ردًا على هذه التحركات.
وتابع قائلًا: "الأخطر هو السماح لديمتري بروبكينكو، قائد كتيبة آزوف السابق، بمواصلة نشاطه ضد روسيا بعد نقله إلى تركيا، رغم التعهدات بتقييد تحركاته"، مشيرًا إلى اتصالات بين شخصيات فنلندية وبروبكينكو لإحياء ما يسمى "تحالف الشعوب الأصلية" في كاريليا، واعتبر أن ذلك يعيد إلى الأذهان أحداثًا تاريخية تخدم الأجندة الغربية الحالية.
وأضاف ملحم أن واشنطن تسعى أيضًا لإعادة فتح ملف المهجّرين الشركس من القوقاز إلى الشرق الأوسط خلال الحروب العثمانية – الروسية، معتبرًا الأمر محاولة لإشعال صراعات جديدة حول روسيا.
أما بشأن أزمة الحدود، أكد أن فنلندا تستخدم ملف الهجرة غير الشرعية ذريعة لاتهام موسكو بالتقصير، رغم صعوبة ضبط الحدود الممتدة والمعقدة التضاريس في آسيا الوسطى، ورأى أن هذه الأزمة تصب في مصلحة تأجيج العداء الشعبي بين الفنلنديين والروس.
ومن جانبه، قال المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية الدكتور سمير أيوب، إن انضمام فنلندا إلى "الناتو" أنهى حيادها التاريخي وحوّلها من دولة صديقة إلى طرف تعده موسكو معاديًا.
وأشار أيوب لـ"إرم نيوز" إلى أن فنلندا عندما كانت محايدة استطاعت أن تحافظ على أمنها واستقرارها، بل لعبت دور الوسيط بين روسيا والغرب، مستفيدة من قربها الجغرافي من سانت بطرسبرغ.
وأوضح أن الوضع تغير بعد انضمامها إلى "الناتو"، حيث باتت أراضيها قابلة للاستخدام كقواعد عسكرية ضد روسيا، وهو ما دفع موسكو إلى تعزيز وجودها العسكري في المناطق الحدودية والخليج الفنلندي.
وذكر المحلل السياسي بأن الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين "سامح فنلندا" بعد الحرب العالمية الثانية رغم مشاركتها مع القوات الألمانية في حصار لينينغراد، بشرط التزامها الحياد، ولكن مع انضمامها إلى الحلف الأطلسي، فقدت هذه الميزة.
وأضاف: "روسيا تعد انضمام فنلندا إلى الناتو قد يؤدي إلى تصعيد التوتر، وإذا تم تهديد الأمن القومي الروسي من أراضيها فلن تتردد موسكو في الرد المباشر، ما قد يجعل فنلندا هدفًا عسكريًا".
واستبعد أيوب اندلاع مواجهة عسكرية مباشرة مع فنلندا أو السويد، مؤكدًا أن الدولتين تتحليان بعقلانية استراتيجية ولن تسمحا باستفزاز روسيا من أراضيهما، مشددًا على أن موسكو لن تتهاون في حماية أمنها القومي.
وأكد أهمية إعادة العلاقات الروسية – الفنلندية إلى مسارها الطبيعي، مشيرًا إلى أن حل الصراع بين روسيا و"الناتو"، خصوصًا في أوكرانيا، قد يفتح الباب أمام فنلندا لاستعادة دورها كدولة محايدة ووسيط موثوق كما كانت في الماضي.