يرى خبراء أن موقف روسيا تجاه فنزويلا لا يقوم على التصعيد العسكري، بل على حماية مصالح استراتيجية، خاصة في قطاع النفط، وإرسال رسائل واضحة إلى واشنطن حول حدود تدخلها.
ويؤكد المحللون أن دعم موسكو لفنزويلا والتفاهمات مع كاراكاس تأتي في إطار الحفاظ على التوازنات الإقليمية والضغط السياسي، بينما يشير خبراء إلى أن الولايات المتحدة تتعامل مع الأزمة بصبر إستراتيجي، مع مراعاة مصالحها في أمريكا اللاتينية وملفات أخرى مثل أوكرانيا، مما يجعل الوضع الحالي اختبارًا دقيقًا للنفوذ الدولي والتوازنات العالمية.
وأعادت فنزويلا فتح ملف النفوذ الدولي على نحو يذكر بأجواء الحرب الباردة، إذ لم يعد الصراع مقتصرًا على شرق أوروبا، بل تمدد إلى الخارج البعيد لروسيا و"الحديقة الخلفية" للولايات المتحدة.
وفي الوقت الذي تبرر فيه واشنطن حشدها العسكري في منطقة الكاريبي بأنه خطوة لمكافحة تهريب المخدرات، ترى موسكو أن ما يجري يمثل استخدامًا مفرطًا للقوة وتهديدًا مباشرًا لحليفها اللاتيني نيكولاس مادورو.
وأعلنت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أن موسكو تدين بشدة استخدام القوة العسكرية المفرطة في الكاريبي، مؤكدة دعمها الكامل للحكومة الفنزويلية في الدفاع عن سيادتها والحفاظ على المنطقة كمنطقة سلام.
لكن ما أثار الجدل هو ما كشفته واشنطن بوست عن رسالة رسمية من مادورو إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يطلب فيها تزويد بلاده بصواريخ دفاعية متقدمة وطائرات سوخوي وإصلاح أنظمة رادار ومحركات عسكرية، إضافة إلى خطة تمويل تمتد لـ 3 سنوات مع شركة "روستيك" الروسية.
ولم تمضِ أيام حتى أكدت تقارير ميدانية هبوط طائرتين روسيتين في كاراكاس، يُعتقد أنهما حملتا أنظمة "بانتسير S1" و"بوك M2E".
وكشف النائب الروسي أليكسي جورافليوف لصحيفة Gazeta.ru أن موسكو تزود فنزويلا بأسلحة متنوعة دون أي عوائق قانونية، ملمحًا إلى احتمال تسليم صواريخ "كاليبر" أو "أوريشنيك" المتطورة، وهو ما اعتبرته أوساط غربية "تهديدًا رمزيًا أكثر منه فعليًا".
وقال المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية، د. محمود الأفندي، إن الموقف الروسي تجاه فنزويلا لا يقوم على التصعيد، بل على حماية مصالح إستراتيجية عميقة، خاصة في قطاع النفط الذي تشرف على أغلب عملياته شركات روسية.
وأضاف لـ" إرم نيوز "، أن موسكو ترتبط مع كاراكاس باتفاقيات تعاون إستراتيجي واسعة، كان آخرها اتفاق وقعه مجلس الدوما قبل نحو شهر، ما يجعل فنزويلا شريكًا محوريًا لروسيا اقتصاديًا وعسكريًا.
وأشار إلى أن روسيا تبعث برسائل واضحة لواشنطن مفادها بأن أي محاولة لقلب نظام الحكم في فنزويلا يجب أن تراعي المصالح الروسية هناك، بعدما «لدغت من الجحر مرتين» في ليبيا وفقدت جزءًا من استثماراتها النفطية قبل أن تعود عبر دعمها للمشير خليفة حفتر.
وأضاف أن موسكو لا تسعى لمواجهة عسكرية، لكنها تذكّر الولايات المتحدة بأنها ليست وحدها في الميدان، وأن أي تدخل في فنزويلا قد يتحول إلى حرب استنزاف طويلة.
ولفت الخبير في الشؤون الروسية إلى أهمية عقد قمة ثلاثية تجمع بوتين وشي جين بينغ وترامب لبحث مستقبل النظام العالمي، مشيرًا إلى أن الرئيس الأمريكي نفسه وصف بوتين وشي بأنهما قائدان قويان يجب التعامل معهما بلغة مباشرة.
واعتبر الأفندي أن دعم روسيا لفنزويلا وتوقيع اتفاقية التعاون معها رسالة سياسية لواشنطن بأن العالم يعيش أزمة مستمرة، وأن مخرجها الوحيد يتمثل في حوار القادة الكبار لإعادة صياغة النظام الدولي.
وأضاف أن الحلول الكبرى لا تنضج إلا بوجود أمل سياسي حقيقي، يتمثل اليوم في اجتماع القوى الثلاث لإعادة توزيع خرائط النفوذ في ظل شلل مجلس الأمن وتسييس الأمم المتحدة لصالح الولايات المتحدة والدولة العميقة فيها. واستشهد بقمة يالطا عام 1945 التي أرست توازنات ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ولفت الأفندي إلى أن روسيا لا تسعى إلى إشعال مواجهة عسكرية في أمريكا اللاتينية، بل تدعو إلى احترام التوازنات السياسية والاقتصادية، مشددًا على أن فنزويلا، لقربها من الولايات المتحدة وطبيعتها الجغرافية المعقدة، قد تتحول بأي تدخل عسكري فيها إلى فيتنام جديدة لواشنطن.
من جانبه، أكد المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية، د. نبيل رشوان، أن إعلان موسكو استعدادها لمساندة فنزويلا عسكريًا في حال تعرضها لهجوم أمريكي يُعد خطوة إستراتيجية، لكنها لا ترقى إلى التصعيد، لأن الولايات المتحدة تعتبر فنزويلا بمثابة حديقتها الخلفية وتتعامل مع التطورات هناك بسياسة الصبر الإستراتيجي.
وأوضح رشوان لـ "إرم نيوز" أن واشنطن ليست في عجلة لتغيير النظام في كاراكاس رغم تدهور الاقتصاد الفنزويلي وتراجع صادراته النفطية التي كانت تتجه سابقًا إلى السوق الأمريكية.
وقال المحلل السياسي إنه في حال تدخلت روسيا عسكريًا في فنزويلا، فإن الولايات المتحدة قد ترد عبر تزويد أوكرانيا بأسلحة إستراتيجية مثل صواريخ "توماهوك" لضرب العمق الروسي، مستبعدًا أن تقدم واشنطن أي تنازلات في الملف الأوكراني بعد سيطرة موسكو فعليًا على المقاطعات الشرقية وشبه جزيرة القرم.
وأشار رشوان إلى أن هناك تفاهُمات محدودة بين موسكو وواشنطن في بعض الملفات ذات المصالح المشتركة، إلا أن روسيا تُصر على أن تتخلى كييف نهائيًا عن منطقة دونباس، في حين تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على نفوذها في أمريكا اللاتينية.
وكشف عن وجود تفاهمات غير معلنة بين الطرفين بشأن كاراكاس، لاعتبار فنزويلا جزءًا من المجال الحيوي الأمريكي، مشيرًا إلى أن واشنطن تتعامل بحذر مماثل مع نيكاراغوا التي يقودها دانييل أورتيغا، الحليف المقرب من موسكو، متبعة النهج ذاته القائم على الصبر الإستراتيجي دون الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة.