مسيّرة تستهدف سيارة على طريق بلدة مركبا جنوبي لبنان
تبدو الاضطرابات الأخيرة في نيبال للوهلة الأولى مجرد انفجار غضب شعبي شبيه بما شهدته سريلانكا أو بنغلاديش، لكن التحليل العميق يكشف أن الواقع أكثر تعقيدًا بكثير.
ففي الوقت الذي أطاحت فيه احتجاجات الشباب في سريلانكا بحكومة الرئيس غوتابايا راجاباكسا في 2022، ونجحت الحركة الطلابية في بنغلاديش في قلب نظام الشيخة حسينة، تتسم الأزمة النيبالية بخلفيات محلية معقدة تتشابك فيها السياسة الداخلية مع النفوذ الإقليمي، بحسب صحيفة "يوراسيان تايمز".
كانت الشرارة المباشرة للاضطرابات حادثة متهورة قادها وزير، أسفرت عن إصابة تلميذة، لكن الغضب الشعبي كان يتصاعد منذ سنوات ضد النخب السياسية، ليس فقط بسبب الفساد، بل أيضًا نتيجة إخفاقات الإدارة المتكررة.
وفق تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2024، تحتل نيبال المرتبة 107 من بين 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد، فيما أدرجتها مجموعة العمل المالي (FATF) ضمن القائمة الرمادية لفشلها في مواجهة غسل الأموال والجرائم المالية بفاعلية.
وساهم الاقتصاد النيبالي المتدهور في تفاقم الأزمة؛ فقد شهدت السنة المالية 2023/2024 هجرة أكثر من 700 ألف شاب إلى الخارج، بينما بلغ معدل بطالة الشباب 19.2% بحسب منظمة العمل الدولية.
وتشير الاستطلاعات إلى تراجع الثقة في الدولة، إذ يرى 41.7% فقط أن البلاد تسير في الاتجاه الصحيح، فيما لم تتجاوز ثقة المواطنين بالأحزاب السياسية 44%.
كما شكّلت التحديات الاقتصادية والاجتماعية مثل التضخم، ونقص الوظائف، وضعف البنية التحتية والتعليم، فضلاً عن التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية، أرضية صالحة لغضب الشباب.
وذكرت الصحيفة أنه على عكس بنغلاديش، حيث أُشير إلى أن قوى أجنبية معادية، بما فيها "الدولة العميقة" الأمريكية وجهاز المخابرات الباكستانية، كانت وراء العنف والتغيير الحكومي، فإن التحريض في نيبال يبدو محليًا إلى حد كبير.
وهذا لا ينفي بالطبع أن المحيط الإقليمي، وخصوصًا الهند والصين، يراقب عن كثب، ويحاول ضبط موازين النفوذ بما يخدم مصالحهما.
الحكومة الحالية، بقيادة حزب كيه بي أولي، هي ائتلاف واسع يضم الحزب الشيوعي النيبالي الموالي للصين، وحزب المؤتمر الموالي للهند، مما أدى إلى إضعاف المعارضة وخلق ديناميكية معقدة.
ومنذ اعتماد الدستور الحالي العام 2015، شهدت نيبال 15 حكومة مختلفة، بمعدل إدارة واحدة كل 14 شهرًا، ما يعكس هشاشة النظام السياسي، واستمرار أزمة الثقة بين النخب والشعب.
الاضطرابات الأخيرة أعادت إلى الواجهة مطالب سياسية واجتماعية عميقة: إصلاحات في الحكم، ومحاسبة السياسيين على أصولهم التي نهبوها خلال العقود الماضية، واستعادة الفاعلية الاقتصادية، وتنظيم قطاعي التعليم والبنية التحتية.
وبينما كانت الملكية الدستورية محور جدل مستمر منذ اتفاق السلام الذي توسطت فيه الهند، العام 2006، لإنهاء تمرد الماويين، تتجدد الدعوات، اليوم، لإعادة النظر في نظام الحكم.
تأثرت الهند، باعتبارها الجار الأقوى والأكثر تأثيرًا، مباشرة بالاضطرابات، نظرًا للعلاقات الشعبية الممتدة لقرون، مثل التسهيلات في الهجرة والعمل والتعليم، فيما تستخدم بعض القوى المحلية هذه العلاقة السياسية كأداة داخلية لتعزيز أجندات محددة، وهو ما منح الصين فرصة استثمارية كبيرة عبر مشاريع البنية التحتية الحساسة، بما في ذلك بناء طرق ومشاريع على الحدود مع الهند.
في المقابل، بنغلاديش، اليوم، تواجه أزمات مختلفة: اقتصاد أفضل، لكنه يشهد تصاعدًا في العنف الطائفي والغوغائي، مع حظر حزب رابطة عوامي، وتصاعد نفوذ الإسلاميين الراغبين في إدارة دستور وفق الشريعة، ما يضع الأقليات في موقع هش.
بينما عادت سريلانكا إلى مسارها الديمقراطي المستقر بعد انتخاب رئيس جديد، مع احترام الحريات السياسية والانتخابية.
الدرس الأبرز من نيبال أن الأزمات الشعبية لا يمكن اختزالها في نمط واحد؛ فهي نتاج تراكم طويل من الفساد، والفشل الاقتصادي، وتداخل النفوذ الإقليمي.
ومهما حدث في كاتماندو، فإن تأثيره سيمتد إلى نيودلهي وبكين، وكلتا الدولتين ستبحثان عن توازن مناسب مع القيادة الجديدة، وسط هواجس أمنية وسياسية مستمرة.
نيبال، اليوم، هي اختبار حي لمعنى الهشاشة السياسية في جنوب آسيا، حيث يتقاطع الغضب الشعبي مع إستراتيجيات القوى الكبرى، وتبقى الصورة النهائية غير واضحة، لكن المؤكد أن أي تغييرات هنا ستعيد تشكيل خريطة النفوذ في المنطقة بأكملها.