تشهد مالي حالة من الغموض السياسي والأمني وسط تباطؤ الدعم الخارجي وتزايد التهديدات المتفرقة داخل البلاد، ما يضع المجلس العسكري أمام تحدي إعادة ترتيب علاقاته الإقليمية وبناء شبكة شراكات مرنة لضمان الاستقرار الأمني والسياسي.
فما يجري حول مالي إقليمياً وسياسياً خلال الأيام الأخيرة قد يكون أكثر أهمية من أي مواجهة عسكرية واسعة النطاق.
فالصمت الظاهر في باماكو يخفي قلقاً فعلياً من بطء الاستجابة الخارجية، ومن محدودية قدرة الشركاء الإقليميين على مواكبة كل خطوط التوتر المنتشرة في البلاد.
ورغم غياب إعلانات رسمية، فإن التحركات الدبلوماسية في دول الجوار، والمواقف الصادرة عن بعض القوى الدولية، تعكس مرحلة جديدة من إعادة حسابات هادئة في مالي، تتجاوز الميدان نحو سؤال أكبر حول كيفية إعادة باماكو تنظيم علاقتها بالإقليم في ظل انكشاف لم يعد ممكناً تغطيته عبر حليف واحد متمثل بالجانب الروسي، ليكون هذا السؤال بما يحمله من أبعاد سياسية وأمنية ممثلاً لجوهر اللحظة الحالية.
وحتى الأن لم يصدر عن المجلس العسكري أي موقف يحدد اتجاه الأزمة أو يشرح خطته للأشهر المقبلة، وهذا الصمت المفاجئ يعكس حالة من الانتظار المضطر، حيث تتجنب السلطة أي إعلان قد يربك علاقتها بحلفائها أو يثير حساسيات داخلية.
في المقابل، تظهر مؤشرات على تباطؤ ملحوظ في وتيرة الدعم الخارجي، فيما تفرض المساحات الشاسعة داخل مالي واقعًا يجعل التعويل على شريك وحيد مخاطرة يصعب الاستمرار بها طويلاً. هذا الفراغ في الخطاب الرسمي يفتح باب التأويلات بشأن شكل التعديلات التي يُرجح أن تُقدم عليها باماكو.
وقال مصدر دبلوماسي أوروبي يعمل في إحدى بعثات الاتحاد الأوروبي في الساحل، إن "الضبابية التي تظهر في موقف باماكو خلال الأيام الأخيرة ليست علامة ضعف، بقدر ما يعكس تعقيد اللحظة وحجم الضغوط الداخلية والخارجية".
وأضاف أن "الوضع في مالي لا يتجه نحو انهيار ولا نحو انفراج، وهذا يجعل قراءة تحركات السلطة أكثر صعوبة؛ نلاحظ حركة بطيئة، لكن آثارها قد تُكشف لاحقًا".
وبحسب المصدر، فإن بعض العواصم الأوروبية تجري تقديرًا بأن مالي تحتاج إلى شراكات متعددة بدلًا من تغيير اصطفافاتها.
وأكد أن "القلق الأوروبي اليوم لا يتعلق بتقدم الجماعات المسلحة أو تراجعها، بل بغياب مؤشرات سياسية توضح كيف تنوي باماكو إدارة المرحلة المقبلة".
ووفق الدبلوماسي فقد رُصدت خلال الأيام الأخيرة زيادة في الاتصالات غير المعلنة بين بعثات غربية ودول مجاورة، خصوصًا تشاد وموريتانيا، بهدف فهم حجم التحولات التي تتشكل بصمت في المنطقة.
وشدد المصدر أن "الجميع يريد أن يفهم كيف ستتعامل باماكو مع شبكة المخاطر الموزعة على أكثر من جبهة؛ فالمنطقة كلها في حالة ترقّب هادئة، وهذا هو التوصيف الأدق للوضع اليوم".
من ناحيته أفاد مصدر دبلوماسي موريتاني مطّلع على الاتصالات الجارية حول الوضع في مالي، أن العواصم المعنية بالأمن في الساحل تتابع التطورات في مالي بدقة منذ نحو أسبوع، بسبب شعور عام بأن المشهد يتجه نحو مرحلة جديدة تحتاج إلى ترتيبات مختلفة.
وأضاف المصدر لـ"إرم نيوز": "لا توجد مؤشرات على انهيار أو انتقال واسع للتوتر، لكن هناك قناعة بأن المسارات التقليدية التي اعتمدتها باماكو خلال السنتين الماضيتين لم تعد كافية لوحدها. المشكلة ليست في الشريك الدولي، بل في حجم الخريطة وتشعب مصادر التهديد".
وأوضح المصدر أن "موريتانيا زادت من مراقبة حدودها الشرقية خلال الأيام الأخيرة، لأن أي تغيير صغير في مالي قد ينعكس سريعاً على القرى الحدودية. هذا إجراء احترازي طبيعي، لكنه يعكس أيضاً شعوراً متزايداً بأن اللحظة السياسية في باماكو ليست واضحة بما يكفي".
وتابع قائلاً: "نحن ندرك أن المجلس العسكري في مالي يواجه قيوداً متعددة تتمثل بضغط الوضع الداخلي، وتحديات العمل مع أكثر من شريك دولي في الوقت ذاته. هذا كله يجعل اتخاذ القرارات بطيئاً، ويجعل المنطقة في حالة ترقّب ممتدة".
وأشار المصدر إلى أن موريتانيا ليست بصدد الدخول في أي ترتيبات علنية الآن، لكن هناك مشاورات تقنية غير رسمية مع أطراف في باماكو، بالإضافة إلى قنوات مفتوحة مع تشاد والنيجر، لافتاً إلى أن الهدف هو ضمان الحد الأدنى من الانسجام في مراقبة الحدود، لأن أي فراغ أو سوء تقدير يمكن أن يخلق مشاكل لا يرغب أحد في التعامل معها.
وبيّن أن "المسألة الأساسية اليوم ليست توسع الهجمات أو تراجعها، وإنما تتمثل في غياب إطار سياسي واضح تستند إليه مالي في علاقتها مع جوارها. بعض الدول في المنطقة تشعر أن باماكو تمشي خطوة بخطوة، من دون خطة طويلة المدى، وهذا ما يخلق قلقاً صامتاً حول مستقبل التعاون الأمني".
وقال مصدر في وكالة تابعة للأمم المتحدة العاملة في منطقة الساحل، إن "المشهد في مالي خلال الأيام الأخيرة يوصف بشيء أقرب إلى الترقّب الطويل، بلا إشارات سياسية واضحة".
وأضاف في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز" أن "القلق الأساسي داخل المنظومة الأممية اليوم يتعلق بالضبابية السياسية. الدوائر الأممية في باماكو تجري، منذ أيام، مراجعة هادئة لطبيعة عملها في بعض المناطق الوسطى، بسبب حاجة العاملين إلى فهم اتجاهات المشهد السياسي قبل إعادة نشر فرق جديدة أو تعديل خطط يمكن أن تؤثر على المجتمعات المحلية".
وأشار إلى أن "الترتيبات الإقليمية التي يجري الحديث عنها في بعض العواصم ليست واضحة بالنسبة لنا. نسمع عن اتصالات ثنائية بين مالي وبعض جيرانها، لكن لا توجد خارطة تعاون معلنة يمكن البناء عليها. هذا يجعل التخطيط الأممي قصير الأمد، ويجعل الاستجابات أكثر بطئاً".
وختم المصدر الأممي حديثه بالقول: "الجميع هنا يتفق على أمر واحد بأن مالي لن تستفيد من دعم دولي أو إقليمي واسع ما لم تقدّم رؤية سياسية أكثر وضوحاً خلال الأسابيع المقبلة. المنطقة كلها تتحرك، حتى لو كان ذلك خارج البيانات الرسمية، أما داخل مالي، فالوقت يمرّ من دون إشارات كافية، وهذا ما يثير قلق المؤسسات الأممية حتى الآن".

ما يمكن تثبيته اليوم هو أن الهشاشة الأمنية في مالي لم تعد قابلة للربط بقطاع واحد أو منطقة واحدة، فنمط التوترات المنتشرة في أكثر من محافظة يوضح أن التهديدات متغيرة الاتجاه، وليست نمطية.
وهذه النقطة لربما هي التي تدفع باماكو إلى التفكير في خيارات سياسية بديلة، لأن التحركات العنيفة عندما لا تتركز في جبهة محددة، تصبح إدارتها العسكرية أعقد، ويصبح الاعتماد على طرف خارجي واحد خياراً محفوفاً بالمخاطر. تحت هذا السقف، يدور السؤال حول كيفية مواجهة تهديدات متعددة المسارات عبر إطار شراكة واحد فقط.
بالنظر إلى المشهد الإقليمي، يمكن ملاحظة الاتجاه العام المستمر لدى دول الجوار نحو تعزيز مراقبة الحدود وتحديث تقديراتها الأمنية، من دون الإعلان عن ترتيبات جديدة.
وهذه الحركة الهادئة يمكن أن تشير إلى شعور مشترك بأن حالة "الانتظار" في مالي قد تمتد أكثر مما يجب، وأن هشاشة مراكز الدولة يمكن أن تتحول إذا طال الجمود إلى موجة ارتدادية نحو الجيران.
موريتانيا، من جهتها، ما زالت تُجري مراجعات لوجستية للحركة على حدودها الشرقية. و تشاد تعمل على تحسين انتشارها في بعض النقاط الحساسة جنوب غرب البلاد. أما النيجر رغم انشغالها بملفاتها الداخلية تتابع المشهد بحذر لأنها تدرك أن أي ارتباك في مالي سينعكس على خطوط الإمداد التي تربط البلدين.
هذه التحركات لا تعني أن الوضع خرج عن السيطرة، لكنها تعني أن الملف المالي أصبح جزءاً من معادلة أوسع يجري إعدادها إقليمياً تحسباً لأي تصعيد مفاجئ.
من جانبه قال الخبير التشادي في شؤون الساحل والأمن العابر للحدود، الحسين مبارك ديديو، إن المرحلة التي تمر بها مالي الآن تُقاس بنوعية الأسئلة السياسية التي تفرض نفسها على باماكو وعلى المنطقة ككل.
وأضاف "من الصعب اليوم فصل ما يجري داخل مالي عن الحسابات الجارية في نجامينا ونواكشوط ونيامي، لأن هشاشة الداخل المالي لم تعد شأناً محلياً منذ زمن".
وأوضح ديديو خلال تصريحاته لـ"إرم نيوز": "تشاد تنظر إلى الوضع في مالي من زاويتين متلازمتين؛ الأولى ترتبط باستقرار الحدود الغربية للبلاد، والثانية ترتبط بتوازن القوة داخل الإقليم. أي خلل في مالي مهما بدا صغيراً يؤثر مباشرة على تشاد، لأن حركة الجماعات المسلحة، وحركة التهريب، وحتى حركة السكان، كلها محكومة بمسارات تمتد من وسط مالي وصولاً إلى ضواحي نجامينا".
وتابع أن "غياب المواجهات الكبرى لا يعني أن الوضع مستقر. ما يقلق تشاد هو غياب رؤية واضحة من باماكو حول شكل التعاون الذي تريده مع جيرانها، وهذا الغياب يجعل كل دولة تعمل وفق قراءتها الخاصة من دون إطار إقليمي جامع، وهذا في حد ذاته مصدر هشاشة".
ولفت ديديو إلى أن تشاد لا ترغب في الدخول في أي ترتيبات أمنية واسعة الآن، لكنها في المقابل تراقب مؤشرات صغيرة بدأت تظهر في الأسابيع الماضية؛ "مثل إعادة انتشار محدود قرب الحدود مع النيجر، زيادة تبادل المعلومات مع موريتانيا، واتصالات غير معلنة بين بعض العواصم. هذه كلها تشير إلى أن الإقليم يتحرك، لكن باماكو لم تُظهر بعد ما إذا كانت تريد الانخراط في هذا المسار".
وأضاف قائلاً: "من المهم أن نفهم أن المسألة الأساسية بأن التهديدات التي تواجهها مالي متعددة الاتجاهات، ولا يمكن لطرف واحد أن يستوعبها كلها. هذه الحقيقة يعرفها الجميع في الساحل، وقد بدأت تظهر بوضوح خلال الشهور الأخيرة".
وأشار ديديو إلى أن "تشاد تعتقد أن مالي ستُضطر خلال الفترة المقبلة إلى إعادة تعريف علاقتها بجوارها القريب، وربما إعادة إحياء آليات تعاون جرى إهمالها خلال السنتين الماضيتين. هذا لا يعني تغييراً جذرياً في التحالفات، لكنه يعني أن شبكة العلاقات ستتوسع، وهذا أمر طبيعي في بيئة أمنية معقدة مثل الساحل".
وختم الخبير التشادي قائلاً: "إذا أرادت مالي الخروج من حالة الترقب الحالية، فعليها أن تتجه نحو شراكات مرنة، متدرجة، لا تستبعد أحداً ولا تبني سياستها على طرف واحد. الإقليم اليوم بالإضافة إلى هشاشته فإنه أيضاً سريع التقلّب، وأي دولة لم تبنِ لنفسها شبكة حماية متعددة ستجد نفسها مكشوفة. وهذا هو التحدي الفعلي أمام باماكو في الأسابيع المقبلة".