قالت مصادر دبلوماسية أوروبية لـ"إرم نيوز"، إنّ قرار الترويكا الأوروبية (فرنسا، ألمانيا، والمملكة المتحدة) بالذهاب نحو تفعيل آلية "الزناد" بات خياراً جدّياً على الطاولة. كما أوضحت أن حالة "الجمود النووي" التي استمرت لأشهر دفعت بروكسل إلى الاقتناع بأن الانتظار لم يعد مجدياً، وأن إبقاء العقوبات مجمّدة يشكّل مكافأة مجانية لطهران التي تواصل رفع مستويات تخصيب اليورانيوم، وتقييد عمل المفتشين الدوليين.
المصادر الأوروبية وصفت اللحظة بأنها "الفرصة الأخيرة لإعادة الإمساك بالإطار القانوني"، مؤكدة أن الترويكا تريد خلق واقع جديد قبل حلول تشرين الأول/أكتوبر، حين تتغير موازين الرئاسة داخل مجلس الأمن. وبحسب هذه الدوائر، فإن الاتحاد الأوروبي يسعى إلى تنسيق وثيق مع واشنطن لتوزيع الأدوار بحيث تُفعّل أوروبا الآلية عبر مجلس الأمن، بينما تتكفّل الإدارة الأميركية بترجمة العقوبات عملياً من خلال النظام المالي العالمي وآليات الامتثال التجاري.
الآلية، التي نُص عليها في قرار مجلس الأمن 2231، تعمل بمبدأ "الإرجاع التلقائي"؛ أي أن أي طرف يعلن رسمياً عن خرق جوهري للاتفاق، فتنطلق ساعة زمنية مدتها 30 يوماً، تنتهي بإعادة فرض العقوبات الأممية السابقة ما لم يتفق مجلس الأمن على تمديد الوضع القائم. ما يميّز هذه الآلية أنها محصّنة ضد الفيتو؛ فإفشال عودة العقوبات يحتاج إلى قرار إيجابي من المجلس، وهو ما يمكن لأي دولة دائمة العضوية تعطيله.
في نظر الأوروبيين، هذا السلاح ليس فقط ورقة عقابية، وإنما أداة لردم الهوة القانونية التي خلّفها جمود الاتفاق. وتضيف المصادر الأوروبية أن اللجوء إلى آلية "الزناد" يحمل بعداً إستراتيجياً يراد منه إعادة فرض هيكلة ضغط شاملة تعيد إيران إلى مربع المراقبة الدولية. فالمسألة بالنسبة لهذه الدوائر تتمثل في بناء جدار حماية سياسي يمنع طهران من استغلال ثغرات اللحظة الانتقالية في النظام الدولي. وتشير المصادر ذاتها إلى أن العواصم الأوروبية تنظر إلى الآلية كإشارة مزدوجة؛ موجهة أولاً إلى إيران كي تدرك أن تجاوز السقوف المتفق عليها سيُواجَه بإجراءات فورية، وموجهة ثانياً إلى الداخل الأوروبي الذي بات يضغط على حكوماته لعدم التهاون مع برنامج نووي يتسارع في محيط إقليمي مضطرب.
وتذهب المصادر إلى القول إن هذا التصعيد يهدف أيضاً إلى "تقييد حركة روسيا والصين" داخل مجلس الأمن، إذ ترى أوروبا أن تفعيل الآلية في هذا التوقيت يضعهما أمام أمر واقع قانوني يصعب الالتفاف عليه، ويمنع تحويل الملف النووي إلى ورقة مساومة في صراعات أخرى.
وتوضح المصادر لـ"إرم نيوز"، أنّ الهدف غير المعلن من تفعيل آلية "الزناد" هو إعادة تعريف العلاقة مع واشنطن أيضاً، إذ تريد بروكسل أن تبرهن أنها قادرة على تولي زمام المبادرة في الملفات الأمنية العالمية، وألا تبقى رهينةً لسياسات البيت الأبيض المتقلبة. فإعادة فرض العقوبات عبر مجلس الأمن يُقدَّم في هذه القراءة كاختبار لمصداقية أوروبا كفاعل دولي مستقل، حتى وإن كان التنسيق مع الولايات المتحدة قائماً.
كما لفتت إلى أن الملف الاقتصادي يظلّ جزءاً أساسياً من الحسابات. فعودة العقوبات الأممية ستجعل أي استثمارات أو عقود مع إيران موضع شك، وهو ما يعني ضرب ما تبقى من محاولات طهران للانفتاح التجاري على أسواق آسيوية وأفريقية.
يمكن تفسير التشدّد الأوروبي عبر 3 مستويات مترابطة، وفق حديث الباحث في الشؤون الأوروبية أمير عبد الجواد لـ"إرم نيوز"، فغياب الثقة بالمسار التفاوضي يظلّ حاضراً بقوة؛ فالمباحثات التي جرت في جنيف ثم، لاحقاً، في لقاءات غير رسمية لم تحقق أي خرق. حيث رفضت إيران أي التزامات جديدة أو تفاوض مباشر مع واشنطن، وواصلت سياستها بالمماطلة.
وإلى جانب ذلك، هناك الحاجة لتثبيت الموقف الأوروبي أمام الداخل والخارج. فأوروبا، المأزومة بالهجرة غير الشرعية وتدفّق المخدرات المرتبطة بالمعابر غير الشرعية في المنطقة، تريد أن تبعث برسالة سياسية إلى الداخل الأوروبي وإلى شركائها عبر الأطلسي بأنّها قادرة على المبادرة، وليس الاكتفاء بدور المتفرج. ثم تأتي حسابات الوقت والسباق مع موسكو، حيث إن اقتراب موعد انتهاء بعض بنود الاتفاق في تشرين الأول/أكتوبر، ومع تولّي روسيا رئاسة مجلس الأمن، يدفع العواصم الأوروبية إلى الخشية من فقدان القدرة على التحرك. لذلك ترى بروكسل أن هذا الأمر "إما أن يتم الآن أو لن يتم"، كما وصفته مصادر "إرم نيوز".
ويشير عبد الجواد إلى أنّ هذه المستويات الثلاثة لا تُفهم بمعزل عن المزاج العام داخل الاتحاد الأوروبي الذي بات أكثر ميلاً للتشدد بعد الحرب الأوكرانية، حيث لم تعد أوروبا ترى في الانتظار سياسة مجدية. فغياب الثقة بالمفاوضات مع إيران يقترن بذاكرة أوروبية مريرة من سنوات مناخ المماطلة التي استخدمتها طهران لتوسيع قدراتها النووية. أما الحاجة لتثبيت الموقف الأوروبي أمام الداخل فهي أيضاً انعكاس لقلق الحكومات من صعود اليمين الشعبوي الذي يوظف ملفات عدة لتقويض صورة الاتحاد.
من جانب آخر، فإن حسابات الوقت لا ترتبط فقط برئاسة روسيا لمجلس الأمن، وإنما أيضاً بما يُسمى في الأوساط الدبلوماسية الأوروبية "نافذة الشرعية الأخيرة"، أي الفترة المتبقية قبل أن يصبح ملف إيران خارج السيطرة القانونية الدولية. لذلك يبدو أن الأوروبيين يستثمرون اللحظة لإثبات أن امتلاك أدوات القانون الدولي يمكن أن يُترجَم إلى فعل سياسي حقيقي، وفق عبد الجواد.
تبدو تداعيات التصعيد الأوروبي مفتوحة على أكثر من سيناريو، تتداخل فيها الاعتبارات القانونية والاقتصادية والسياسية. فإذا أودعت الترويكا الأوروبية الإخطار الرسمي، بحسب حديث محلل الشؤون الأوروبية حسين رامي لـ"إرم نيوز"، فإن دورة "الزناد" ستكتمل وتعود العقوبات الأممية خلال ثلاثين يوماً، الأمر الذي سيعني تجميداً واسعاً للأصول الإيرانية وإعادة تفعيل الحظر على السلاح والصواريخ وتقييد التعاملات المصرفية. مثل هذه الخطوة ستكون لها انعكاسات اقتصادية فورية، أبرزها انهيار أعمق للريال الإيراني، وتفاقم عزلة طهران في الأسواق المالية والنفطية.
لكن المشهد لا يتوقف هنا، وفق رامي، فبرغم التشدد العلني لم يُغلق الأوروبيون الباب كلياً، مشيراً إلى إمكانية إيجاد "نافذة أخيرة" قد تمتد لأسابيع قليلة فقط، يُشترط خلالها أن تبادر إيران بتقديم تنازلات ملموسة، مثل فتح المواقع النووية للتفتيش الشامل، ووقف عمليات التخصيب عند السقوف المتفق عليها، وإعلان استعداد جدي للعودة إلى طاولة التفاوض. غير أن هذه الخطوات لم تترجم على أرض الواقع حتى الآن، وهو ما يجعل هذا الاحتمال أقرب إلى رهان هشّ على لحظة إنقاذ متأخرة.
في المقابل، يظل السيناريو الأخطر قائماً عبر رد إيراني مضاد. فطهران هدّدت علناً بأنّ إعادة فرض العقوبات قد تدفعها إلى تقليص تعاونها مع الوكالة الدولية، وربما الذهاب أبعد من ذلك بالتفكير في الانسحاب من معاهدة عدم الانتشار النووي. خطوة بهذا الحجم ستنقل الأزمة من مربع الدبلوماسية إلى مربع التصعيد الإستراتيجي، وتضع المنطقة أمام مشهد بالغ الخطورة تتقاطع فيه الحسابات النووية مع التوازنات الإقليمية الملتهبة، وفق المحلل السياسي المتخصص في الشؤون الأوروبية.
إن التحركات الأوروبية ضد إيران تعكس إدراكاً بأن "سياسة الانتظار" لم تعد صالحة. الترويكا تسعى، اليوم، لتثبيت مرجعية قانونية دولية جديدة تعيد خلط أوراق الملف النووي.
ما هو واضح حتى اللحظة، أنّ الاتحاد الأوروبي يستعد لمرحلة "ما بعد الصبر"، ويقترب من لحظة اتخاذ القرار الأخطر منذ توقيع اتفاق 2015. بين العقوبات الدولية والانسداد التفاوضي.