لم تعد الحرب الروسية الأوكرانية تُقاس بمساحات السيطرة أو الفقد، ولا بعدد الهجمات اليومية على الخرائط العسكرية، بل بإيقاع أكثر تعقيدًا يجمع بين حركة ميدانية محدودة وجمود سياسي ثقيل، تتخلله موجات تصعيد محسوبة.
ومع اقتراب نهاية عام 2025، تقترب الحرب من إكمال عامها الرابع وهي عالقة في منطقة رمادية، لا نصرَ حاسمًا في الأفق، ولا تسوية سياسية ناضجة قادرة على كسر دائرة الاستنزاف المفتوحة.
من الناحية الميدانية، يعكس المشهد العسكري حالة تناقض واضحة، خاصة أن الجبهات متحركة على خطوط التماس وتحديدًا في شرق أوكرانيا، تقابلها حالة جمود إستراتيجي أوسع.
وتواصل روسيا الضغط في دونباس، سعيًا إلى ترسيخ سيطرة واقعية على الأرض، فيما تعتمد أوكرانيا على مزيج من الدفاع المرن والضربات المحدودة، في محاولة لمنع أي اختراق كبير يفرض معادلة جديدة.
ورغم استخدام أسلحة أكثر تطورًا، فإن ملامح الحرب لم تخرج عن إطار الاستنزاف طويل الأمد، مع تصاعد الهجمات على البنية التحتية، لا سيما شبكات الطاقة ما يفاقم الأعباء الإنسانية مع كل شتاء جديد.
ومن الناحية السياسية، يبدو مسار المفاوضات أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى، على الرغم من أن الجهود الدبلوماسية لا تزال قائمة، لكنها تدور في حلقة مغلقة.
الإدارة الأمريكية، بقيادة دونالد ترامب منذ مطلع 2025، تبدي رغبة معلنة في إنهاء الحرب سريعًا، غير أن هذه الرغبة تصطدم بغياب تصور عملي يحظى بقبول الأطراف.
وفي المقابل، يواصل الاتحاد الأوروبي دعم أوكرانيا عسكريًا وماليًا، مع تمسكه برفض أي تسوية تمنح موسكو مكاسب واضحة.
ولا تزال العقبات أمام التسوية جوهرية، وتحديدًا الخلاف حول الأراضي المحتلة الذي يمثل العقدة الأثقل، إذ تصر روسيا على الاعتراف بما تسيطر عليه، بينما ترفض أوكرانيا أي تنازل يمس سيادتها.
أما ملف الضمانات الأمنية، فيُعد خطًا أحمرَ متبادلًا، بين طموح كييف للحصول على مظلة غربية صلبة، ورفض موسكو لأي تمدد أطلسي، إضافة إلى انهيار شبه كامل للثقة، بعد سنوات من القتال والدمار.
في ضوء ذلك، هناك 3 سيناريوهات رئيسة خلال 2025، أولها استمرار حرب الاستنزاف بوصفها المسار الأرجح، أو التوصل إلى هدنة مؤقتة تجمّد الصراع دون حل جذري، أو تصعيد أوسع يظل احتمالًا قائمًا وإن كان أقل ترجيحًا.
وبين هذه الاحتمالات، يبقى مصير المفاوضات رهنًا بلحظة إنهاك حقيقية، أو تغير في موازين الضغوط الدولية، أكثر من كونه نتاج نضج سياسي وشيك.
ويرى خبراء أن المشهد العسكري في أوكرانيا بات محكومًا بتناقض واضح بين جبهات متحركة ميدانيًا وحالة جمود إستراتيجي، يعاكسها تصعيد متدرج مع دخول الحرب عامها الرابع واقتراب نهاية 2025.
وكشف الخبراء لـ"إرم نيوز" أن هذا النمط يعكس حرب استنزاف طويلة لا تُحسم بالسيطرة على الأرض وحدها، بل بقدرة الأطراف على تحمّل الكلفة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.
وأضافوا أن مسار المفاوضات لا يزال شبه مغلق في ظل غياب نقطة كسر حقيقية تدفع أي طرف لتقديم تنازلات مؤلمة، خاصة مع استمرار الدعم الأوروبي لأوكرانيا، وتراجع فرص بلورة تسوية يمكن تسويقها داخليًا لدى موسكو أو كييف.
وأشاروا إلى أن محاولات إيجاد مخرج سياسي تصطدم بتباين الحسابات الدولية، ودور أمريكا المتقلب، ما يجعل أي تسوية محتملة مؤجلة إلى لحظة إنهاك أعمق، أو تغير في ميزان الضغوط، وليس نتيجة نضج تفاوضي وشيك.
باتريك ثيروس، دبلوماسي أمريكي سابق، قال إن الوصول إلى تسوية تفاوضية للحرب في أوكرانيا يظل مرهونًا بلحظة يقتنع فيها الطرفان بعدم قدرتهما على تحمّل كلفة القتال لفترة أطول.
وأكد أن أي اتفاق محتمل سيفرض على القيادتين القبول بنتائج أدنى من سقف المطالب القصوى، مع ضرورة أن تكون كل قيادة قادرة على تسويق الاتفاق داخليًا.
وأشار ثيروس في تصريحات لـ"إرم نيوز" إلى أنه حتى الأنظمة السلطوية لا يمكنها القبول بشروط أسوأ بكثير من أهدافها الأصلية إلا إذا أصبح الرأي العام والنخب مقتنعة بأن كلفة الحرب باتت لا تطاق.
وأضاف أن الشعب الأوكراني لا يزال يُظهر استعدادًا لمواصلة القتال بدعم أوروبي وأمل إنساني عميق في استمرار دعم أمريكا، معتبرًا أن هذا العامل، رغم هشاشته، يظل مؤثرًا في حسابات كييف.
ولفت الدبلوماسي الأمريكي السابق إلى أن روسيا تكبدت خسائر بشرية وعسكرية واقتصادية كبيرة، لكنها لم تصل بعد إلى مستوى الضغط الداخلي غير المحتمل، محذرًا من أن بوتين لا يستطيع تحمل هزيمة تُعد مهينة أمام النخب الأمنية.
وأوضح أن ترامب يمثل عاملًا غير متوقع، يسعى إلى إنجاز دبلوماسي سريع قد يعزز موقعه السياسي، أكثر من كونه قائمًا على إستراتيجية متماسكة.
وشبه ثيروس مسار الحرب بحالة الجمود في الحرب العالمية الأولى، مؤكدًا أن حروب الاستنزاف تُحسم بقدرة المجتمعات على تحمّل الكلفة مع مرور الوقت، لا بالسيطرة على الأرض وحدها.
من جهته، أكد نزار بوش، أستاذ العلوم السياسية بجامعة موسكو، أن المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا تصطدم بما يصفه بـ"الجدار الأوروبي".
وأوضح أن الأوروبيين لا يريدون لروسيا تحقيق أي هدف من عمليتها العسكرية، ما يجعل موسكو خاسرة إذا لم تحقق هذه الأهداف.
وأشار بوش في تصريح لـ"إرم نيوز" إلى غياب أي نقاط تقاطع حقيقية بين الأطراف، في ظل اختلاف جذري بين ما يريده الأوروبيون وما تسعى إليه روسيا، إلى جانب ضغوط داخلية وأوروبية يتعرض لها ترامب، خاصة من بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا.
وأوضح أستاذ العلوم السياسية أن ترامب لم ينجح في وقف الحرب أو تجميدها، بينما تنتظر موسكو الأفعال لا التصريحات، مدعومة بإصرار سياسي وشعبي على مواصلة القتال إذا فشلت السياسة.
ويرى أن الحرب ستستمر طالما واصل الأوروبيون دعم كييف، مشيرًا إلى أن روسيا قد تكثف ضرباتها دون اللجوء إلى السلاح النووي، مع استهداف البنية التحتية إذا طال أمد الصراع.
وأضاف بوش أن مسار التفاوض لا يزال مغلقًا، مع احتمالات لمحادثات غير مباشرة دون تفاؤل كبير، لافتًا إلى تمسك موسكو بتحرير دونباس وزابوريجيا وخيرسون، ورفض زيلينسكي لأي تنازل يهدد مستقبله السياسي.
وأشار إلى أن تبادل الأراضي قد يفتح نافذة أمل إذا توفرت الإرادة السياسية، وسط سيناريوهات معقدة في ظل سعي أوروبا إلى إطالة أمد الحرب، واستنزاف روسيا اقتصاديًا.