كشفت صحيفة "هآرتس" أنه بعد عامين من هجوم السابع من أكتوبر، الذي شكّل أخطر اختراق أمني في تاريخ إسرائيل، تتجه الأنظار إلى من سيتحمل المسؤولية عن ذلك الفشل الاستخباراتي والعسكري الذريع، في حين يحاول نتنياهو تأجيل لحظة الحساب السياسي التي تقترب مع موعد الانتخابات المقرر خلال عام.
وأضافت أنه في الوقت الذي ينتظر فيه الإسرائيليون بدء التحقيق الحكومي الرسمي، يبدو أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اختار مسارًا آخر: الهجوم بدل الدفاع، وتوجيه اللوم إلى خصوم الداخل بدل مواجهة الأسئلة الصعبة.
فبينما وعد نتنياهو مرارًا بإجراء تحقيق شامل بعد انتهاء الحرب مع حماس، جاءت مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار لتكشف عن محاولة واضحة لإعادة صياغة السردية العامة قبل أي مساءلة رسمية.
وذكرت الصحيفة أن التحالف الحاكم في إسرائيل بدأ يدفع بخطاب منسق يحمّل المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية، والنظام القضائي، وعائلات الرهائن، مسؤولية إضعاف الجيش وتقويض الروح الوطنية.
المفارقة أن هذا النهج لا يسعى لتحديد المسؤولية بقدر ما يسعى لتفكيك الذاكرة الجمعية الإسرائيلية، وإعادة توجيه الغضب الشعبي بعيدًا عن السلطة السياسية التي كانت في موقع القرار.
وفي مقدمة هذا التحول الاتصالي تقف أقلام يمينية نافذة مثل كارني إلداد في صحيفة إسرائيل اليوم، التي دعت مؤخرًا إلى "اقتلاع" من وصفتهم بـ"الذين شلّوا الأمة عن تحقيق النصر"، في إشارة إلى منتدى عائلات الرهائن والمتظاهرين ضد الحكومة.
هذا الخطاب لا يهدف فقط إلى تبرئة المؤسسة العسكرية والسياسية من المسؤولية، بل إلى إعادة تعريف مفهوم "العدو" نفسه: لم يعد حماس في نظر بعض دوائر اليمين الخطر الأبرز، بل "الداخل المنقسم" الذي يُفترض أنه أضعف الجبهة الإسرائيلية.
وكتبت إلداد أن الحركة المدنية المناهضة لنتنياهو والإعلام المتعاطف معها "نشروا الذعر من أن الجيش يعرض الرهائن للخطر"، وهو ما "أعاق النصر الكامل على حماس"؛ وتدعو صراحة إلى "تحييدهم"، وهي كلمة ذات دلالة عسكرية لا تُستخدم عادة إلا ضد الإرهابيين.
بهذه اللغة، يتحول اللوم الجماعي إلى أداة سياسية لتقويض أي نقد للحكومة أو للجيش، وتهيئة الرأي العام لتقبل فكرة أن إخفاقات 7 أكتوبر ليست نتاج فشل القيادة، بل نتاج "خيانة داخلية".
إن هذه الاستراتيجية الإعلامية ليست عرضية، بل ممنهجة: فكما يشرح المراقبون، يبدأ الخطاب على مستوى القاعدة، من الكتّاب والمعلقين ومؤثري التواصل الاجتماعي، ثم يصعد تدريجيًا إلى مستوى الوزراء وأعضاء الكنيست، ليصبح جزءًا من الخطاب الرسمي للدولة.
امتد هذا النمط الاتهامي من الصحف إلى أروقة الحكومة نفسها. فوزير العدل ياريف ليفين، أحد أبرز مهندسي "الإصلاح القضائي" المثير للجدل، قال في مقابلة مع صحيفة ماكور ريشون إن "السبب الجذري لكارثة السابع من أكتوبر هو اتفاقات أوسلو والانسحاب من غزة".
لكنّ ليفين رفض أن تُشرف المحكمة العليا على لجنة التحقيق، معتبرًا أن رئيسها “لا يتمتع بالشرعية”، وداعيًا إلى تعيين لجنة “يثق بها الجميع”، أي لجنة موالية للحكومة فعليًا.
بهذا الطرح، تتحول لجنة التحقيق من أداة للمساءلة إلى وسيلة لحماية السلطة. فالقانون الإسرائيلي ينص على أن رئيس القضاء هو من يُعيّن اللجنة، لكن الحكومة تسعى الآن لتغيير هذا النظام لضمان تحكمها في من يُحقق وفي من يُلام.
في الوقت نفسه، يُروّج نواب من حزب "عوتسما يهوديت" المتطرف، مثل عميخاي إلياهو، لنظرية مؤامرة جديدة تُحمّل النظام القضائي الإسرائيلي نفسه مسؤولية ما جرى، بزعم أنه "قيد يد الجيش" ومنع إصلاح قواعد الاشتباك.
هذا الخطاب يُكمل حلقة تبرئة نتنياهو، إذ يُصوّر السلطة التنفيذية كضحية لنظام قضائي “يساري” حال دون الانتصار. إنها محاولة واضحة لنقل مركز الثقل من فشل القيادة إلى فشل المؤسسات.
إعادة كتابة التاريخ
وبحسب تقرير لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، فإن وراء هذه الجوقة من الأصوات، يظل بنيامين نتنياهو المحرك الأساسي؛ ففي اليوم نفسه الذي ألقى فيه خطابًا متحديًا في الكنيست، كان يجري خلف الكواليس مشاورات لتسريع قانون يسمح بإنشاء لجنة تحقيق موالية للحكومة.
ووفق التقرير فإن الهدف، هو توجيه التحقيق نحو القضاء والمتظاهرين بدلاً من قيادة الجيش والحكومة.
تدل هذه التحركات على أن نتنياهو لا يسعى فقط إلى الإفلات من المساءلة، بل إلى إعادة تعريف من يحق له مساءلة من. فحين تقوّض القوانين سلطتك، غيّرها؛ وحين لا تعجبك الحقيقة، أعد صياغتها؛ إنها استراتيجية بقاء سياسي على حساب الثقة العامة، تُعيد إنتاج خطاب الانقسام وتُهدد مؤسسات الدولة نفسها.
ومع اقتراب الانتخابات، يبدو أن نتنياهو يهيئ المشهد لمواجهة انتخابية تقوم على الخوف والانقسام لا على المساءلة والوحدة.
فبدلاً من أن يكون السابع من أكتوبر نقطة مراجعة وطنية، يتحول إلى أداة سياسية تُستخدم لتصفية الحسابات الداخلية، بينما تبقى الأسئلة الجوهرية حول الإخفاق الأمني الأكبر في تاريخ إسرائيل بلا إجابة.