مقتل 5 جنود بتفجير انتحاري في شمال شرق نيجيريا
لم يكن صعود اليمين المتطرف في السنوات الأخيرة مجرد صدفة أو حنكة سياسية من قادته، بل جاء نتيجةً لتراكمات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية استثمرها هذا التيار الذي عرف كيف ينقل "الخوف والغضب" في الشارع إلى صناديق الاقتراع.
ويُظهر الواقع الحالي أن هذه التيارات غادرت الهوامش وباتت تحتل المتن السياسي، إذ أصبحت تؤثر في مسار الانتخابات وفي السياسات العامة على مستوى القارة ككل، بعد عقود من هيمنة الأحزاب الوسطية واليسارية.
ورغم أن "اليمين المتطرف" طيف واسع من الحركات التي قد تختلف "أجندتها وخصوصيتها" بحسب الدولة التي تنشط فيها، فإن المصطلح يجمع بين "تيارات راديكالية" لا تكتفي بسياسات يمينية مقبولة، بل تغالي في طروحاتها، وتتخذ مواقف متشددة حيال الهجرة والهوية والأقليات والأديان، تصاحبها نزعات قومية وميل إلى "الانغلاق والانعزال".
ويرى خبراء أن هذه الحركات غالبا ما تسوّق نفسها على أنها "بديل" للأحزاب التقليدية التي فشلت في تهدئة مخاوف الناخبين بشأن الأزمات الاقتصادية وتحديات الهجرة والانقسام المجتمعي، فاستغل اليمين المتطرف هذه العناوين لاستمالة "الناخبين الغاضبين" الذين وجدوا فيه، بدورهم، بوابةً للخلاص.
وما عزز من حضور هذا التيار "المتطرف والقومي والفاشي"، وفقا لتوصيفات الخصوم، أنه طوّع خطابه بما يتناسب مع المزاج العام من دون التخلي عن "رؤاه" الأساسية، لينجح في "تطبيع" مبادئه في الحياة السياسية الأوروبية بعد عقود من التهميش.
ويرى خبراء أن ثمة مقدماتٍ لهذه الظاهرة اليمينية، إذ ساهمت عدة عوامل في تكريسها، لعل أبرزها الأزمة المالية العالمية في 2008 وما تبعها من سياسات تقشف أثرت على الطبقات الوسطى والفقيرة في أوروبا، ما خلق "استياءً" تجاه الأحزاب التقليدية.
وتبعت ذلك موجات الهجرة التي أغرقت القارة بوافدين جدد، ففي العام 2015 استقبلت ألمانيا بمفردها نحو مليون لاجئ، الأمر الذي شكل عبئا على البنية التحتية وعلى سلاسة الإجراءات الإدارية وعلى سوق العمل و"الوظائف".
ويشير خبراء إلى أن تدفق المهاجرين المنحدرين من ثقافات ومرجعيات مختلفة عن تلك السائدة في أوروبا غذّى المخاوف لدى الأوروبيين في مسائل تتعلق بالهوية والثقافة والدين، بل و"الأمان"، في ضوء تورط بعض المهاجرين في عمليات عنفٍ.
وكان من البديهي، كما يقول الخبراء، أن يستغل اليمين المتطرف هذه المخاوف ويشق طريقه نحو البرلمانات والحكومات عبر خطاب "الإصلاح" و"حماية الهوية الوطنية" وقيم "العائلة"، وسط شعورٍ متزايد لدى الناخبين بأن الأحزاب التقليدية أخفقت في ذلك.
وهذا ما يفسر المكاسب الواضحة التي حققها اليمين المتطرف في الانتخابات التي شهدتها بعض دول القارة، ففي الانتخابات الأوروبية 2024 جاءت أحزاب اليمين في مقدمة النتائج أو في مراتب متقدمة جداً.
وفي ألمانيا، على سبيل المثال، حقق حزب "البديل من أجل ألمانيا" في الانتخابات المبكرة الأخيرة التي جرت في شباط/فبراير الماضي "قفزةً مذهلة"، حسب المراقبين، إذ حلّ في المرتبة الثانية على مستوى البلاد بعد التحالف المسيحي بعد حصوله على أكثر من 20% من أصوات الناخبين.
والأمر ذاته تكرر في إيطاليا إذ تصدر حزب "إخوة إيطاليا" نتائج الانتخابات، ما عزز موقعه كقوةٍ رئيسية داخل الدولة، وكذلك الحال في النمسا حيث رفع "حزب الحرية" اليميني رصيده الانتخابي، كما صعد اليمين الفرنسي وسط أزماتٍ سياسية شهدتها البلاد.
وبهذا المعنى، يلاحظ خبراء أن أحزاب اليمين المتطرف لم تعد مجرد ديكورٍ سياسي، بل أصبحت رقما صعباً في الانتخابات وجزءاً من النسيج السياسي للديمقراطيات الأوروبية، وقد كان لافتا أن صعود اليمين دفع الأحزاب التقليدية إلى تبني سياسات أكثر تشددا في قضايا الهجرة والهوية، في محاولةٍ لاستعادة ناخبيها، وهو ما يعني، بحسب خبراء، أن تأثير اليمين وصل إلى صلب القرار السياسي.
ويستدرك الخبراء بأن الطريق أمام الصعود إلى القمة ليس ممهداً تماماً أمام اليمين، فثمة تحديات قد تلجم هذه الاندفاعة، ذلك أن اليمين يشكل خطرا على ثقافة التعدد ويعزز ظاهرة العنصرية و"الإسلاموفوبيا" وانقسام المجتمع.
ويوضح الخبراء أن صعود اليمين الراديكالي سيفضي بالضرورة إلى ظهور "تطرفٍ مضاد"، قد يتبلور على شكل تيارات يسارية تعارض "سطوة" اليمين.
ومن المعلوم أن الدول الأوروبية تحظى بهامش واسع من الحريات في مجال الأنشطة المدنية، وبالتالي فإن ردود فعل المجتمع المدني ومؤسسات حقوق الإنسان قد تتصاعد، ما قد يعيد فرض "سقف" على خطاب اليمين المتطرف الذي يتعين عليه، عندئذ، التخفيف من "الغلو" أو الاصطدام بمن يقف في وجه صعوده.
والسؤال المهم الذي يطرحه المحللون هو: ما المدى الذي سيصل إليه اليمين؟ وما السيناريوهات المتوقعة لمستقبله؟
يرى الخبراء أنه لا يمكن التنبؤ بدقةٍ بالمستقبل، لكن تحليل الواقع الحالي يسمح برسم بعض المسارات المحتملة التي قد تعيد تشكيل المشهد السياسي في القارة خلال الأعوام المقبلة.
ومن بين هذه السيناريوهات "التطبيع والاستيعاب"، أي أن يصبح اليمين المتطرف جزءاً من "المعتاد" السياسي، وربما يشارك في ائتلافاتٍ حكومية، وهذا يشبه ما حصل في بعض الدول مثل إيطاليا أو النمسا، في حين أن الأحزاب الألمانية لا تزال صامدة في وجه اليمين المتطرف رافضةً الائتلاف معه رغم أرقامه العالية.
ويتوقف نجاح هذا السيناريو على مدى قدرة اليمين على الانتقال من الخطابات التحريضية إلى برامج عملية قابلةٍ للتنفيذ، وتبني خطاب أقل صدامية مع القيم الأوروبية، ما قد يؤدي إلى بروز نسخة "مطبعة" من هذه الأحزاب.
أما السيناريو الثاني، بحسب خبراء، فيتعلق بالاختبار الرسمي الذي قد يؤدي إلى انهيار اليمين تحت ثقل المسؤولية، إذ تواجه الحكومات التي يقودها اليمين الراديكالي تحدياتٍ حين تنتقل من انتقاد السياسات العامة إلى إدارة الدولة.
ويوضح الخبراء أن قيود الميزانيات والأزمات الاقتصادية وعراقيل "البيروقراطية" وأعباء التعليم والصحة والبطالة... كلها عوامل قد تكشف محدودية برامج اليمين وتظهر الفجوة الواسعة بين الوعود البراقة والواقع المتخم بالملفات التي تنتظر الحل.
وفي حال عجز اليمين عن معالجة هذه الملفات فقد تنقلب "قاعدته الانتخابية" عليه، خصوصا تلك الفئة التي دعمته بدافع الغضب أو الاحتجاج وليس بقناعةٍ أيديولوجية، وهو ما قد يعيد الاعتبار للأحزاب التقليدية.
وقد يشهد الاتحاد الأوروبي، في سيناريو ثالث، انقساما أعمق نتيجة تمدد اليمين، ما يخلق خطوط صدعٍ جديدة بين حكومات تتبنى الانفتاح والتكامل وأخرى تميل إلى الانعزال، وقد يؤدي ذلك إلى تعقيد اتخاذ القرارات المشتركة بشأن قضايا الهجرة واللجوء والسياسات الضريبية والدفاع، وهو ما سيضعف التكتل الأوروبي.
وثمة سيناريو رابع، لكنه مستبعد في المدى المنظور، وهو أن يأخذ صعود اليمين منحى تصاعديا يوصله إلى قلب مؤسسات الحكم، ويمتد ليشكل المزاج العام ويعيد ترتيب أولويات هذه الدولة أو تلك.
وفي مثل هذا السيناريو، كما يقول خبراء، ستترسخ سياسات أكثر تشددا تجاه الهجرة وتعزيز الهوية القومية والحد من سلطة الاتحاد الأوروبي، ما سيدخل القارة مرحلةً جديدة تصبح فيها القيم القومية المغلقة أكثر حضورا من مبادئ الانفتاح التي وسمت أوروبا لعقود، ما يفتح الباب أمام إعادة صياغةٍ عميقة لهوية المشروع الأوروبي نفسه.