شهدت فرنسا خلال أقل من عام انهيار 3 حكومات، فيما يبدو أن الأزمة السياسية لن تهدأ قريبًا؛ ما يضع الرئيس إيمانويل ماكرون في مواجهة مباشرة مع التحديات الداخلية ويقوض إرثه المحلي خلال آخر 18 شهرًا من ولايته.
وكشفت تقارير أن الحكومة الحالية بالكاد نجت من تصويت حجب الثقة الأول، لكنها تبقى الأضعف منذ عقود، وسط احتمال أن يتم إسقاطها في أي لحظة إذا اجتمعت أحزاب المعارضة ضدها؛ ما يعني أن فرنسا تواجه معركة صعبة في البرلمان لتمرير ميزانيتها، وهو أمر كان يعتبر سابقًا من أبسط مهام الحكومة.
ويبدو أن أكثر المتضررين من هذه الأزمة هو الرئيس نفسه؛ فقد وصل ماكرون إلى الحكم عام 2017 بوعد بإعادة تشكيل السياسة الفرنسية، مستفيدًا من مزيج من سياسات اليسار واليمين لتحفيز الاقتصاد، وخفض البطالة، وتقليص الفوارق الاجتماعية، ومنع صعود اليمين المتطرف.
إلَّا أن سلسلة الأزمات، بدءًا من احتجاجات "السترات الصفراء"، مرورًا بجائحة كورونا، وصولاً إلى الحرب في أوكرانيا، قوضت هذه الرؤية، ومع إعادة انتخابه عام 2022، فقَد ماكرون أغلبيته المطلقة في البرلمان، وما زادت الأمور إلَّا تعقيدًا بعد الدعوة إلى انتخابات تشريعية مفاجئة في يونيو 2024، في ظل تصاعد شعبية زعيمة حزب التجمع الوطني مارين لوبان.
كما أصبح البرلمان منقسمًا بين اليسار واليمين والوسط، دون أي أغلبية مطلقة، في وقت بدأ فيه دعم قاعدة ماكرون الوسطية بالتفكك، ولذلك يؤكد المحللون السياسيون أن الأزمة الحالية متعددة الأبعاد: مالية واجتماعية وسياسية، مع صعود اليمين المتطرف، وبينما لم يُسبب ماكرون كل ذلك فإنه سرّع من تفاقمه.
وبحسب مصادر فإن ماكرون، للتصدي لمخاطر إسقاط الحكومة، لجأ ورئيس وزرائه الجديد سيباستيان ليكورنو إلى استرضاء الحزب الاشتراكي، مؤجلين تطبيق قانون التقاعد لعام 2023 الذي رفع سن التقاعد تدريجيًا من 62 إلى 64 عامًا.
والنتيجة أن فترة ماكرون الثانية باتت تبدو فوضوية وغير فعالة، كما أن اختياره عدم تعيين حكومة يسارية بعد انتخابات 2024 أضعف صورة الديمقراطية، بينما أظهرت استطلاعات الرأي أن نسبة الثقة به انخفضت إلى نحو 14–16% فقط، وحتى على المستوى الدولي لم يعد حضوره الإعلامي يرفع شعبيته.
ويؤكد الخبراء أن ماكرون فشل في تحقيق وعده الأساسي بمنع صعود اليمين؛ إذ ازداد دعم المواطنين لحزب التجمع الوطني، ولم يعد التصويت له مجرد تصويت احتجاجي، بل أصبح يُنظر إليه كخيار بديل، ما يعكس تحولًا حقيقيًا في المشهد السياسي الفرنسي.
من جانبه أشار المؤرخ السياسي جان غاريغ إلى أن صورة ماكرون اليوم هي الأسوأ لأي رئيس منذ تأسيس الجمهورية الخامسة عام 1958؛ إذ تجاوزت مستويات رفضه حدود الاستياء لتصل إلى الكراهية، بينما لم يشهد أي رئيس سابق مثل هذه الدرجة من الرفض العميق والمتعدد الأبعاد.
وباختصار، وصل ماكرون إلى نهاية مسيرته الرئاسية محاصرًا بين وعود لم تتحقق، وأزمات متعددة، وصعود اليمين المتطرف، في وقت لم تعد فيه شعبيته تساهم في تثبيت حكمه أو إرثه السياسي.