لا تمثل استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025، التي أطلقتها إدارة الرئيس دونالد ترامب، مجرد وثيقة توجيهية تعكس أولويات واشنطن الدفاعية، بل تشكّل تحوّلًا هيكليًا في الطريقة التي تُدار بها موازين القوى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وبالنسبة لإندونيسيا، الدولة المحورية في جنوب شرق آسيا، فإن هذه الاستراتيجية تضع عقيدة السياسة الخارجية القائمة على "الاستقلال والنشاط" أمام اختبار غير مسبوق، بحسب صحيفة "آسيا تايمز".
فبينما اعتادت جاكرتا إدارة علاقاتها الدولية عبر مزيج دقيق من الحياد الاستراتيجي والتوازن بين القوى الكبرى، فإن تصاعد حدة المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، مقرونًا بإعادة هندسة التحالفات الإقليمية، يقلّص هامش المناورة التقليدي الذي اعتمدت عليه السياسة الإندونيسية لعقود.
أحد أبرز ملامح استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025 هو الدفع الواضح نحو تعزيز الدور الأمني لليابان، وتشجيعها على تجاوز القيود الدستورية التي حدّت تاريخيًا من انخراطها العسكري.
هذا التحول يعيد رسم البنية الاستراتيجية لشرق وجنوب شرق آسيا، ويخلق محورًا أمنيًا أكثر وضوحًا يمتد من شمال شرق آسيا إلى جنوبها.
بالنسبة لإندونيسيا، يعني ذلك أن التوازن الإقليمي لم يعد يُدار فقط عبر آليات "آسيان"، بل بات أكثر ارتباطًا بالتنسيق الأمريكي–الياباني.
ومع توسع الدور البحري الياباني، سواء عبر التدريبات المشتركة أو برامج بناء القدرات أو التعاون في تكنولوجيا الدفاع، تصبح جاكرتا جزءًا من الحسابات الأمنية الكبرى بحكم موقعها الجغرافي وقدراتها البحرية.
ورغم أن هذا الواقع يفتح فرصًا لتعزيز التعاون الدفاعي وتحديث القدرات البحرية الإندونيسية، فإنه في الوقت نفسه يحمل مخاطر تآكل الاستقلال الاستراتيجي إذا ما جرى الانخراط في ترتيبات أمنية تُصاغ خارج الإطار الإقليمي الذي طالما قادته إندونيسيا.
تعكس الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تحولًا نوعيًا في مقاربة واشنطن للصين، حيث لم تعد المنافسة محصورة في الجوانب العسكرية أو التجارية، بل باتت تُصوَّر كمنافسة شاملة على شكل النظام الإقليمي ذاته.
هذا الإطار يفرض على دول مثل إندونيسيا تحديات متزايدة في الحفاظ على مسافة متوازنة من القوتين.
ورغم تأكيد جاكرتا المستمر على أنها ليست طرفًا في نزاعات بحر الصين الجنوبي، فإن اقتراب الأنشطة البحرية الصينية من بحر ناتونا، وتزايد أهمية سيناريوهات تايوان في التخطيط العسكري الأمريكي، يجعلان من الصعب الاستمرار في سياسة العزلة النسبية.
كما أن توقع واشنطن تنسيقًا أكبر بين الحلفاء في إدارة السلوك البحري الصيني يرفع سقف الضغوط على إندونيسيا لتوضيح مواقفها القانونية وتعزيز وعيها بالمجال البحري.
يُهدد هذا الواقع بتحويل الجغرافيا الإندونيسية من عنصر تمكين للحياد إلى مصدر ضغط دائم، حيث تصبح الممرات البحرية الحيوية أصولًا استراتيجية تتنافس عليها القوى الكبرى.
تُولي استراتيجية الأمن القومي الأمريكية أهمية متزايدة للأمن الاقتصادي، باعتباره جزءًا لا يتجزأ من التنافس الجيوسياسي.
ويُعد هذا البُعد بالغ الأهمية لإندونيسيا، التي تسعى لترسيخ موقعها في سلاسل التوريد العالمية للمعادن الحيوية، لا سيما النيكل والبطاريات وصناعات السيارات الكهربائية.
يتقاطع هذا التوجه مع مساعي واشنطن لتقليل اعتمادها على الصين وتنويع سلاسل الإمداد، ما يمنح جاكرتا فرصة لجذب الاستثمارات والتكنولوجيا وتعزيز نفوذها الصناعي.
غير أن هذا التقاطع يحمل في طياته مخاطر إذا لم يُدار بحذر، إذ قد تجد إندونيسيا نفسها عالقة بين مطالب اقتصادية متناقضة تفرضها قوى صناعية متنافسة.
في المحصلة، لم تعد إندونيسيا تملك رفاهية الغموض الاستراتيجي. فإعادة تشكيل موازين القوى في المحيطين الهندي والهادئ تتسارع بوتيرة تفوق قدرة المنطقة على التكيّف التدريجي.
وستحدد قدرة جاكرتا على صياغة استراتيجية كبرى أكثر وضوحًا، وتحديث أدواتها الدفاعية، وممارسة دبلوماسية دقيقة، ما إذا كانت ستخرج من هذا التحول كقوة استقرار إقليمية، أم كطرف يتفاعل مع واقع صاغه الآخرون.